صنعاء | أخيراً، للصورة مكانتها في صنعاء. مدينتنا، التي أخذت موقفاً سلبياً من «الصورة»، في أزمنة سالفة، تحت ذريعة «مبررات دينية» تُحرِّم التصوير. لكنّ بعد الثورة تصالحت صنعاء المعطلة مع الصورة، وإن كانت «التسوية» من فوق، ورغم أنف المدينة.لقد صرنا نكتشف كل يوم، من بعد الربيع اليمنيّ الذي أزاح نظام علي عبد الله صالح ، صوراً لشباب اعتقدناهم غائبين عن مجتمعهم وأسئلته. بيد أن في صورهم ما يعلن بوضوح أنهم وأنهن يقيمون في قلب المجتمع اليمني.

ظهروا فجأة: يرصدون بعدساتهم اللاقطة تحولات المدينة وتفاصيل المجتمع الصغيرة. يأخذون ما يرونه في الشارع ويذهبون به إلى البيت. العدسات تحول المدينة إلى مختبر. كأنهم يقولون: نعرف مجتمعنا ونحترم قوانينه، لكن هذه رؤيتنا. التصوير في اليمن، بعد الثورة، مقاومة بالحيلة. تحايل على الواقع، أو اختراع أشكال لحيوات ممكنة في عدسة.
في تلك الصور التي نجدها في معارض صارت تقام بشكل شبه منتظم، نجد مقاربة لمجتمع تكاد تخنقه أصوليات دينية، وتمسك به أعراف تمسك به من أذنيه.
مجتمع لا يقدر على التقدم خطوة إلى الأمام. في الصور: تقول الأنثى للرجل: «لن أترك نقابي، لكن دعنا يا سيدي، لوقت مستقطع من الحياة أن نقوم بتدوير الأماكن؛ أنت على يسار الصورة وأنا على يمينها، والحجاب كذلك سنتبادله؛ سأعلن وجهي مقابل أن تحجب وجهك ونرى هل تستمر الحياة». سترى في الصور وجود ملامح استياء في تفاصيل وجه الرجل وهو في طريقه لارتداء ملابس زوجته. كأنه يقول: «حتى لو قبلت بهذا الدور موقتاً، فأنا أرفض الفكرة، أنا أفعل فقط تلبية لنزوتك الآنية كما أن لا أحد يرانا». هذه افتراضات، وتبدو صعبة التحقق، بخاصةً عندما نتحدث عن مجتمع غير متسامح مع المرأة، بل يحاسبها على أساس «الزواج»، وتتراجع فرصتها في الزواج، كلما ارتقت في «سلم المعرفة».
في مقلب آخر، سنجد أعمالاً فوتوغرافيّة تظهر في لقطات صادمة، إمكان اختراع حياة ولو في شرطها الأدنى. تحت النقاب خطوة أولى في طريق الانعتاق الكلي. قد نرى شابة منقبة انتهت من ارتداء حذاء «سكسي» له أن يعطي جسدها طولاً وفتنة إضافيين، وتبدو مستعدة لذهابها لموعد مفترض. وقد نرى أخرى بذات الرداء على دراجة نارية كأنه يستعد لنقلها إلى مكان موعدها سريعاً. وفي صورة ثالثة قد نصادف فتاة بأظافر معتنى بها جيداً، وتتلوى بدلع، وهي تحمل «آيبود»، كأنها تقول إنها بلغت رغبتها ونجحت في لمس موعدها المفترض. ولهذا نرى بهجة ظاهرة على أطراف القماش المُلقى على جسدها الشاب. في الصور إذاً، تتحايل الفتاة على محيطها وعلى القيود التي تلف عنقها. تفتعل البهجة بطرق اخترعتها في خيالها. هكذا في الصور، تظهر مسايرةً لحداثة وعصر يحدث خارجها واستطاعت الصورة التقاطه، كما التقطت أظافر لا نراها في الشارع. المتعة متاحة في الصورة، ولو من خلف حجاب. رغم كل شيء، وإن كان ما نتحدث عنه «جنة» في «الفوتوغرافيا»، فإنه لبلاد حزينة. في الصور عن اليمن بعد الثورة، سنجد أننا وقعنا في الحيرة التامة، فالصور فاتنة لكنها تغرّد خارج البلاد. كيف استطاع هؤلاء المصورين والمصورات اختراع كل هذا الشغل قرب ضجيج البلاد التي توشك أن تصير جحيماً. هنا، في هذا الملف، بعض من محاولات النجاة.


أمين الغابري: صنعاء صورة أنثى




يتفرغ أمين الغابري (1985) في مشغله الخاص بصنعاء، لإيجاد مقترحات لتحرير جسد الأنثى عن طريق إعادة تشكيل عالم مماثل لذلك الذي يحاذيه في الخارج، مستعيناً بأدوات تتطابق مع تلك السارحة. وليس بالضرورة أن يكون عمل الغابري يرمي إلى إعادة تشكيل تلك البيئة الخارجية ووضعها في متناول يده، بل أحياناً يتطلب قطيعة تامة مع القواعد التي يسير عليها المجتمع في الخارج. مشغله هو «محيط آمن» أو «حياة بديلة»، حيث يستخدم ما يتقاطع ويتسق مع نظرته لما يجب أن تكون عليها اللحظة اليومية الدائرة في الخارج، اللحظة التي الكائنات فيها. هو نوع من اللعب، ربما، لكنه لعب يعرف جيداً كيف يحرز نقاطه الخاصة ليخرج بعمل يقول: «يمكن إعادة ترتيب حياتنا من جديد لتصبح على هذه الصورة».
ولكن لا يبدو هذا الأمر متاحاً على نحو سهل وعلى وجه الخصوص في بيئة «ملغومة» بالعيب والممنوع، تحديداً في ذلك الشق المتعلق بالأنثى. لا اقتراب مسموحاً هنا من «المنطقة الشائكة»، المزروعة بألغام الموروث، وهي ألغام قد تودي بحياة من يقترب منها. يدرك أن موضوع الجسد شائك في اليمن، وفي صنعاء القديمة على وجه الخصوص، وهي البيئة التي تشتغل عليها كاميرا هذا الفنان. صنعاء القديمة المحاطة بسور طيني كبير يعمل على حجب حكايات النساء، تترك فرصة للخيال كي يفعل اقتراحاته وتصوراته عن واقع بعيد المنال. صنعاء صورة أنثى. العدسة هنا «هتك وفضح» لما ينبغي أن يبقى مسكوتاً عنه ومخفياً وراء تلك الأسوار والأغطية. لا نظرة استشراقية هنا ولا تصوراً يأتي من خارج البيئة نفسها. فأمين الغابري ابن لهذه البيئة وملتصق بها، لكن من غير المسموح له التعامل مع هذه الكائنات الأنثوية بعدسته. عليه إذا أن يسحبها إلى ملعبه الخاص.
لكن رغم ذلك عليه أن يجلب العناصر التي لا تزال مرتبطة بذلك التكوين الأنثوي، والعمل على تشكيل اقتراحات للدمج بين الداخل والخارج، المسموح والممنوع، في صورة. يستخدم الغابري في مشغله «الستارة»، وهي رداء تركي من بقايا فترة الاحتلال العثماني لليمن، بقيت من ضمن عناصر أخرى، وصارت تراثاً يمنياً أصلياً كما بقي محصوراً في البيئة الصنعانية فقط ويرتبط بنسائها. تلف هذه الستارة جسد الأنثى بشكل دائري، بحيث يمكن للمرأة أن تتركه مفتوحاً من الأمام، بحسب كمية الأغراء التي ترغب في إطلاقها للعيون المحدقة بها/ والراصدة لأي حركة منها قد تكون «خارجة عن النص».