هناك، عند إشارة المرور قرب «KFC“ الروشة، وُلدت صداقتنا. طوال عام كامل، كنت ألتقيه في المكان نفسه. أتحدّث إليه، بقدر ما يسمح لي الوقت الفاصل ما بين لونَي إشارة المرور: الحمراء والخضراء. كان اسمه راسم، وكان طويلاً ونحيلاً جداً. كأنه ظل. وقف هناك، عاماً كاملاً، يبيع الورد ليعيل والدته وإخوته، بعدما أنهت الحرب الدائرة في سوريا حياة والده، واضطرتهم للهرب إلى لبنان. هنا، في بلد اللجوء، ترك المدرسة والتجأ إلى الروشة مع وروده الحمراء.
يقف عند التقاطع منذ الصباح الباكر، ولا يغادره إلا عندما تفرغ يداه. كنت ألتقيه عصر كل يوم، ويخبرني عن الساعات التي لم أره فيها وعن شظف الحياة في مدينة كبيروت. في أحد أيام أيار من العام 2014، أخبرت راسم بأنني سأتخرّج وأسافر. نظر إليّ مبتسماً، ثم قال بلكنته المحبّبة «أنا ما معي مصاري جبلك هديّة، بتقبلي تاخدي منّي وردة ببلاش؟». أجبته «بقبل، بس بدّي إدفع حقها». عندها، انزعج مني وأردف قائلاً «عيب، ولو، ما نحنا صرنا صحاب». راسم، الذي يعني له ثمن الوردة وجبة طعام له ولعائلته، اختفى ذات يوم. لم أعد أجده عند ذلك التقاطع. قلقت عليه، فسألت عنه أحد الأطفال هناك: أين راسم؟ أجابني «راسم مو راجع. إجت دورية شرطة وأخدتو لأنو عم يشتغل شغل غير مشروع».

وردة ناريمان بخمسة آلاف

تطلب إحدى الشابات من ناريمان صورة «سيلفي» على كورنيش الروشة، فتجيبها مبتسمة «بس إلي شرط، إنو تشتري مني وردة». توافق الشابة على طلب الصغيرة، فتهرع الأخيرة إليها وتتّخذ وضعية مناسبة للصورة. الصغيرة بارعة في أخذ الصور. تعرف كيف تقف، واضعة يديها على خصرها ومطبقة شفتيها كفم البطة.
في إحدى المرات، سألتها أن آخذ لها صورة. وافقت، بشرطٍ أيضاً، أن أشتري لها الآيس كريم. ثم أردفت قائلة «في تبع الألفين والتلاثة الاف والخمسة الاف. أنا بدي تبع الخمسة آلاف». هذا ثمن «السيلفي» وليس ثمن الوردة. هي تشترط «الفصل».
عرّفتني على ابن خالها أحمد. لا يملك هذا الصغير شخصية قوية كناريمان. عندما طلبت منه أخذ صورة تردّد، وحاول الهرب. وبعد محاولات عدة، وافق شرط أن نستأذن والده، فقامت ناريمان بالمهمة عنّي. أحمد أيضاً بارع في التقاط الصور. يبدو أن الطفلين يراقبان المارة على رصيف الروشة، فيقلدان الوضعيات التي يتّخذونها أمام الكاميرا. أحمد كثير الارتباك وقليل الكلام. عندما أغريته بالآيس كريم، أصرّ على أن أستأذن والده أيضاً. ذهبت وناريمان لشراء البوظة (طبعا لم يأت أحمد معنا خوفاً من والده)، فاختارت الحجم المتوسط، ليس لأنها تعلم سعره، بل لأنها رأت صورة البوظة على الحائط فأرادت واحدة مثلها. وبينما نحن ننتظر دورنا، همست في أذني قائلة: «ما تنسي تعطينا أنا وأحمد كل واحد 5000 ليرة زيادة»! عدنا بالبوظة، فامتنع أحمد عن أخذ حصته وطلب منا أن نعطيها إلى والده، كي يعطيها هو له. رفضنا. تغير وجه أحمد و»حرد». صرنا نتبعه وهو يهرب منا. ثم أتت ناريمان وقالت لي:» بتعرفي كيف بيرضى؟ اتضحكي عليه بعشرة آلاف ليرة»، فنظرت إليها وقلت «والله شكلكن انتو التنين اللي عم تضّحكوا علييّ»!



ناريمان «لمّا إكبر بدّي صير دكتورة»

«إسمي ناريمان. عمري 11 سنة. إلي سنتين ونص عم بِيع ورود على الروشة. كنا ولدين بالبيت، بس قبل كم يوم، ولدت إمي وصرنا تلاتة، أبوي اليوم رح ياخدني شوف إمي كرمال إلي زمان ما شفتها. أبوي قاعد هونيك على الحفّة وهوي بضل معي بالنهار. انا تركت المدرسة لما فلينا من سوريا، بس لما أكبر بدي صير دكتورة. وهيدا اللي هونيك أحمد إبن خالي بس هوي أصغر مني».




أحمد: «لمّا إكبر بدّي صير إتعلّم»

«أنا إسمي أحمد. عمري خمس سنين. عم بيع علكة وأبوي قاعد بوجّك. أنا ما فتت على المدرسة، ولمّا اكبر بدي صير إتعلّم. هلأ أنا عم بشتغل لساعد أبوي. حق العلكة 1000 ليرة، بدك؟»