"لبنان يا قطعة سما"، ترتبط هذه الكلمات في الذاكرة الشعبية عند اللبنانيين بأغنية الراحل الكبير وديع الصافي. قد تثير هذه الأغنية الحماسة الوطنية عند البعض، قد يتمادى البعض الآخر في تأويلها لحد التعصب والشوفينية، قد تثير ضحك الكثيرين بالنظر الى الويلات التي عرفتها هذه القطعة من السماء، لكن الأكيد أن عنوان هذه الأغنية يعكس حقيقة دينية لا غبار عليها. "لبنان أكثر من وطن، لبنان رسالة". هكذا وصف البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني لبنان.

رسالة ذكرها الله في كتبه السماوية، تحدث عنها وزارها الأنبياء والرسل والصحابة، رسالة مستمرة ما زالت تنجب القديسين. لبنان أكثر من وطن بالنسبة لأبناء الديانات السماوية الثلاث ولعموم البشرية، وطن صغير جغرافياً لكن حدوده الروحية تمتد الى السماء.
من هنا، فالسياحة الدينية تشكل مصدر ثروة مادية ومعنوية هائلة للبنان، يجب أن يجرى التخطيط لها وتفعيلها بدل الاتكال فقط على المعجزات.

أرض القداسة

ورد اسم لبنان 70 مرة في الكتاب المقدس، والأرز 75 مرة، وصور 59 مرة وصيدا 50 مرة. وهناك ما يزيد عن 30 سفراً تتحدث عن لبنان أو تشير الى أمور تتعلق به من أصل 66 سفراً. وورد ذكر نحو 35 مدينة وقرية تقع جميعها في وقتنا الحاضر ضمن حدود لبنان الحالية.
ومما أوحى الله الى موسى في التوراة "يا موسى بن عمران، يا صاحب جبل لبنان".
ويروى أن بعض الأحاديث النبوية تصف لبنان بأنه واحد من جبال الجنة الأربعة، وأنه واحد من الجبال الثمانية التي تحمل العرش يوم القيامة. وينقل عن ابن عباس قوله إن البيت الحرام بمكة أسس على خمسة أحجار: حجر من حراء، وحجر من طور سيناء، وحجر من لبنان، وحجر نت ثبير وحجر من جوديّ.
واتفقت روايات الإنجيل على أن يسوع كان يعرف جيداً ضواحي صور وصيدا. وقد ألقى السيد المسيح على أرض لبنان أكثر من عظة.
وفي لبنان باشر المسيح رسالته الخلاصية. وأول معجزة قام بها المسيح كانت في "قانا الجليل" قرب صور، حيث حول الماء خمراً في عرس أنسبائه. ووفقاً لإنجيل يوحنا يمكن الجزم أن الإيمان المسيحي بدأ في لبنان، حيث يرد في الإنجيل "هذه الآية الأولى صنعها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه".
ولبنان، منبع القديسين. فعلى الرغم من المآسي التي لطالما شهدها هذا الوطن، ومع كل الظلمات التي حامت ولا تزال حوله، ظلت روح القداسة ونور الإيمان يفوحان من أرضه، مع تكرم الله على شعبه بعدد من القديسين كالقديس شربل والقديسة رفقا والقديس نعمة الله الحرديني، وطوباويين يسيرون على درب القداسة كالطوباوي الأب يعقوب الحداد الكبوشي والأخ اسطفان نعمة.

امكانات سياحية ضخمة

يشكل لبنان محجاً للمؤمنين أكانوا يهوداً، مسيحيين أو مسلمين، وتشير الأرقام والمعلومات الواردة أعلاه الى أهمية لبنان والرمزية الدينية التي يتمتع بها هذا الوطن الصغير عند أبناء هذه الديانات السماوية أو الرسولية.

تستقبل سيدة لبنان في حريصا حوالى المليوني زائر سنوياً ويستقطب دير مار مارون في عنّايا سنوياً نحو 4500000 زائر

ويبرز عند الطوائف المسيحية بشكل خاص مزار سيدة لبنان في حريصا ودير مار مارون في عنايا – مزار القديس شربل. فأعداد الزوار الضخمة التي تقصد هذين المقامين أسطع دليل على أهمية وحجم السياحة الدينية في لبنان.
فسيدة لبنان في حريصا تستقبل سنوياً حوالى المليوني زائر بحسب رئيس المزار الأب خليل علوان. وعلى الرغم من الإقبال الدائم على المزار خلال جميع أيام السنة، إلا أنه يشهد إقبالا كثيفاً خلال ثلاثة مواسم هي، موسم نيسان حتى أواخر أيار الذي يتميز بمشاركة اللبنانيين من مختلف المناطق اللبنانية، موسم آب – أيلول الذي يشهد تدفق أعداد كبيرة من المغتربين اللبنانيين، وموسم الأعياد كعيدي الفصح والميلاد. وأشار الأب علوان الى أن الزوار ينتمون الى مختلف الطوائف، والى الأعداد الكبيرة من المسلمين الذين يقصدون حريصا للصلاة.
ومن الملفت عدد الزوار الإيرانيين الذين يقصدون المزار والذي كان يقدر بحوالى الـ300000 زائر قبل اندلاع الحرب في سوريا، التي نتج عنها تراجع ملحوظ في أعدادهم.
ورغم شهرة المزار على المستوى العالمي إلا أن إدارة المزار تعتمد أيضاً على مواقع التواصل الاجتماعي للترويج للمزار مواكبةً للعصر والتقدم التكنولوجي.
أما دير مار مارون عنايا فيستقطب سنوياً حوالى 4500000 زائر وفقاً للقيم على الدير ومسجّل عجائب مار شربل منذ عام 1981 الأب لويس مطر.
ويشير مطر الى أن مار شربل ليس بحاجة لدعاية لكي يجذب الزوار من أرجاء العالم كافة، ولكن وعلى الرغم من ذلك تسعى إدارة الدير لتعريف الأجانب بالقديس شربل من خلال بروشورات تطبع بأكثر من 14 لغة، وتلعب الأبرشيات المارونية المنتشرة حول العالم دوراً بارزاً في هذا الإطار من خلال تنظيمها لرحلات دينية الى لبنان.
وبهدف تأمين السكن والراحة لمن يرغب بالاختلاء والصلاة قرب الضريح يقوم في ساحة الدير لجهة الشمال نزل "واحة القديس شربل"، حيث تتراوح كلفة قضاء ليلة في النزل مع فطور بين 25000 ليرة لبنانية للبنانيين والشرق أوسطيين و40 دولاراً للأجانب.
من ناحية أخرى وللأسف، لا تلق قانا الاهتمام الوزاري والديني والشعبي الكافي الذي يتلاءم مع بعدها الديني ورمزيتها التاريخية. وإذا كان للاحتلال الاسرائيلي أثره السلبي عليها وعلى كل المناطق التي كانت خاضعة للاحتلال، إلا أن هذا التجاهل الثلاثي الأبعاد لقانا في يومنا الحاضر لا مبرر له، لا بل يعتبر خطيئة ترتكب بحقها وبحق السياحة الدينية.

دور وزارة السياحة

تولي وزارة السياحة اهتماماً متزايداً للسياحة الدينية وتسعى لتشجيعها رغم ضعف الإمكانيات. فالموقع الرسمي لوزارة السياحة يتضمن خانة بعنوان "أنواع السياحة"، تتضمن إضافة الى السياحة الثقافية والطبيعة والمغامرة، السياحة الدينية وتشتمل على أبرز مواقع العبادة المسيحية والإسلامية في مختلف المحافظات اللبنانية مع نبذة تاريخية عن كل موقع.
وتسعى الوزارة بحسب الوزير ميشال فرعون لإعادة إطلاق مشروع تنمية السياحة الدينية والثقافية في لبنان والذي أتى بهبة من الحكومة الإيطالية عام 2013 والذي علق في عهد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.
ومن خلال مشروع السياحة الريفية تعمل الوزارة على وضع المعالم الدينية لكل المناطق اللبنانية.
وشدد فرعون على الدور المهم والفعال الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية، والبلديات في هذا الإطار.
ويذهب جزء من ميزانية الوزارة لترميم مواقع دينية معينة، وتسليط الضوء على بعض المعالم الدينية، ومشروع وادي قنوبين الذي يعتبر من أبرز المشاريع لدى الوزارة.

القطاع الخاص

يبدو أن عيد الفصح هذا العام لن تكون له انعكاسات إيجابية على القطاع الفندقي في لبنان حيث أن الحجوزات حتى الآن شبه معدومة مقارنة بالسنة الماضية، حيث تتوقع نقابة أصحاب الفنادق في لبنان في أسعد الحالات أن تبلغ نسبة الحجوزات خلال هذه الفترة الـ40% في حدها الأقصى مقابل 77% عام 2014.
ويشكل العراقيون العدد الأكبر من نزلاء الفنادق حالياً، ولكنهم هنا "للسياحة الطبية" وليس للسياحة الدينية أو الترفيهية، بالإضافة الى رواد المؤتمرات والندوات.
وحتى وضع هذا الموسم ضمن إطار الـ Low season، والذي تنخفض خلاله الأسعار بحوالى الـ40%، لا يؤثر في حركة الفنادق.
من جهتها، فإن وكالات السفر هي الغائب الأكبر عن قطاع السياحة الدينية، حيث لم يُبدِ العديد من الوكالات أهمية لقطاع السياحة الدينية، أو رغبة في تخفيض أسعارها وكأنها غير معنية بالموضوع، ما يتناقض مع ما أطلعنا عليه نقيب مكاتب السفر والسياحة في لبنان جان عبود عن أن الأسعار تشهد انخفاضاً بحوالى 12 الى 15% خلال هذا الموسم.
وعلى عكس الوكالات، فإن النقيب متابع ومتحمس لقطاع السياحة الدينية، وتحدث عن السعي لخلق عروضات بالتعاون مع البلديات والـ MEA للترويج وتشجيع السياحة الدينية.
في ظل هذا الواقع المتأرجح بين الآمال والامكانيات، والحماسة والتجاهل، تبقى عجائب القديسين هي الاستراتيجية الأمثل والأفعل لتطوير وتشجيع السياحة الدينية في لبنان.