«من هؤلاء؟ هم يفرحون حين يَقتلون البشر، ويفرحون أيضاً حين يُقتلون، حياة الآخرين عندهم لا معنى لها، وحياتهم بلا معنى كذلك. ما دينهم؟»، سؤال يطرحه الروائي العراقي فاضل عباس على لسان بطل روايته «موعدٌ في الصحراء» (دار العارف). يستلّ المؤلّف سؤاله من الواقعِ العراقي الدامي، ليضعَهُ حِملاً ثقيلاً على كاهلِ «أيوب» بطل الرواية الذي لم يعد يخشى الموت أكثر من خشيته من مشاهدة الموت، حين أدرك أن حياة الإنسان هنا حيث الجماعات الإرهابية، بلا ثمن، بلا قيمة، وأيضاً، بلا معنى.«موعدٌ في الصحراء» رواية تسجل حضورها المنبثق من وسط الرعب العراقي. الرواية التي تبدأ بحالةِ اختطافٍ جماعي، حيث يبيع السائق ركابه لخلية إرهابية تقوم بنصب سيطرة وهمية تتم عن طريقها عملية خطف ثلاثة رجال وامرأة أرملة في حجرها ولدين صغيرين.

رواية تحاول الوصول إلى حقيقة هستريا الموت العراقي المجاني، الذي لا يعرف أحد له – ضحية كان أم جلاداً – ثمناً واضح المعالم سوى الخراب، خراب الروح البشرية وهي تعيش منظر الدم وسيل الجثث المتفسخة والمحترقة تماماً كضمائر القتلة المأجورين. تنتمي الرواية بفكرتها وأحداثها إلى روايات «الوجع العراقي» وهي بهذا تشير إلى أن المثقف العراقي ما زال يكتب مأساته، وأن سيل الروايات العراقية التي تحمل هذا الوجع ما زال عصياً عن التوقف تماماً كالدم العراقي المراق. هذا ما يتلمسه القارئ في رواية عباس المروية على لسان راوٍ كامل المعرفة، يحدثُنا بأسلوبٍ سردي بسيط، عميق الدلالة، عن شاب عراقي مسالم يدعى أيوب، الذي لا يمتلك في عراقه سوى أحلامه، ودفء والدة عجوز وحبية هي ابنة الجيران. شاب لم يسبق لهُ أن حمل سلاحاً، فمظاهر العنف المنتشرة في كلَّ مكان جعلت منه كائناً منزوياً هامشياً، لكنه، ما زال محتفظاً بإنسانيته. أيوب الذي يتعرض للخطف مع مجموعة الركاب، الذي شهد مقتل ثلاثة من «زملائه» المخطوفين على يد المجموعة الخاطفة من دون سبب يذكر، ينجح في تأخير موته. يدعي بأنه ميكانيكي سيارات، على إثر سماعه في ليلة الخطف الماضية، بأن هناك سيارات عاطلة عند الارهابيين وهناك ضرورة ملحة لتصليحها. وهنا تكون البداية لحياة جديدة كتبت له، هذه الفرصة التي يستغلها المؤلف بدراية للولوج إلى عالم الإرهاب، وفضح الكثير من خفاياه، ليصل بالقارئ إلى أن لا هدف في أدمغة الإرهابيين غير القتل، القتل أو أخذ الفدية ثم القتل.
«بيتٌ طينيٌ وسطَ الصحراء، هو وكر للإرهابيين، ومذبح للمخطوفين، لا صوت يصل إليه، ولا صوت يصل منه إلى قريب أو بعيد، كان بيتاً للبدو رعاةِ الأغنام المتنقلين في تلك الصحاري». هكذا يصور لنا المؤلف مسرح روايته الذي تدور على أرضه وبين أروقته العابقة برائحة الدم والبارود، أغلب أحداث الرواية. صحيح أن هناك وعلى مبعدة من البيت الطيني، محرقة للجثث المغدورة، إلّا أن المؤلف حاول حصر شخوص روايته داخل جدران البيت الطيني ليمنح نفسه فسحة من الحرية بغية الدخول إلى دواخل شخوصه، محللاً بذلك التركيبة النفسية والشخصية لكل منهم، خاطفين ومخطوفين. تظهر الرواية بغضاً واضحاً يحمله الارهابيون للفرد العراقي، هذا البغض الذي تحول «بفتوى مجرم معتوه»، إلى مبرر «ديني» يبيح قتل من هو مختلف في العقيدة والمذهب. لذا صار العراقي يتلمس أجزاء جسده كل لحظة وهو يتصور مستقبل جسده متمثلاً بمشروع جثة متفسخة على كومة أزبال أو وسط محرقة وقودها الأزبال أيضاً... فالرواية تزخر بمشاهد القتل، ولعل مشهد وجود بطل الرواية «المختطف» داخل غرفة قذرة تتناثر على أرضها جثث مقطوعة الرؤوس، يشكل انتقالة تصويرية لمشهد تتحول فيه الشخصية العراقية الخائفة من الموت، إلى شخصية عابثة بالموت ولكن بشكل هستيري... «بعد وجبة الطعام بدأ «أيوب» بتسلية جديدة لقتل الوقت، تسلية جنونية باشر بها وهو يسأل... إلى أيّ الجثث تعود هذه الرؤوس؟ فهذا الرأس الأسمر أكيد لهذا الجسد الأسمر اللون... وهذا الرأس المطروح جنباً عائد للجثة التي أمامي، فقطعة الجلد المتدلية من الرقبة تطابق السلخ الموجود على نصف الرقبة المتقبي...» مشهد قد يصح اسقاطه على كوابيس الإنسان العراقي الذي يشهد منظر الدم والأشلاء المتناثرة بشكل يومي.
ورغم قساوة المشاهد، وذلك الرعب المعاش في يوميات شخوص الرواية أو حتى في أحلامهم «كوابيسهم» إلا أننا كثيراً ما نجد المؤلف متعاطفاً مع الضحايا.

تحوّل البطل من عالم الضحية الخائفة إلى عالم القتل
وها هو يحاول بصياغة مشهد سينمائي مؤثر، تخفيف فظاعة حالة الاغتصاب التي تتعرض لها المرأة بعد انتزاعها من بين أيدي ولديها المتشبثين بها وصراخهما. يحاول المؤلف الذهاب بالمرأة بعيداً عن مأساتها، ليعيدها إلى طفولتها ومرحلة صباها، رغم سماعنا أنينها الموجع تحت فظاعة الاغتصاب. «إنها في عالم سريالي مشوه، جزء من لوحة يرسمها إرهابي بدوي لا يعي من الحياة سوى النهش في هذا الجسد المستلقي. تتذكر طفولتها، أيام براءتها، حياتها مع أهلها في الحيّ الشعبي... المغتصِب يغوص في تفاصيل جسدها، وهي تغوص في الماضي، تستذكر أجملَ لحظاتها».
تهتم الرواية بإظهار ذلك التحول المفاجئ الذي طرأ على حياة الإنسان العراقي نتيجة التغيرات المتلاطمة التي عصفت بالمجتمع العراقي، والتي يقف على رأسها الإرهاب والموت المجاني، حيث عمد المؤلف إلى إعادة صياغة شخصية بطل روايته لينتقل بها من عالم الضحية الخائفة إلى عالم القتل، مبرراً ذلك بموت والدة البطل وزواج حبيبته من رجل آخر. هذا التحول الخطير الذي صار يقلق المجتمع العراقي وينخر جسده، نجده وبشكل مفاجئ «روائياً» متمثلاً بشخصية بطل الرواية. بعدما صار واحداً من أفراد الخلية الإرهابية، رغم أنه كان مجبراً على ذلك، تحوَّلَ إلى قاتل لا يخشى الموت. «أيوب» الذي ذاق الموت مراراً على يد الإرهابيين، هو الآن يقف على رؤوسهم وهم مكبلون وفي يده بندقية بعد أن قتل اثنين منهم وحرر الأسرى من غرفة الموت. صار يوغل بتعذيب الإرهابيين وإهانتهم، وبعد أن يبقي الأمير بحوزته يأخذه إلى المحرقة التي شهدت حرق العديد من الجثث والأحياء الأبرياء الذي قتلوا بدم بارد. يسكب الزيت على رأس الأمير ويضرم به النيران ثأراً لـ «كل روح زهقت بباطل... كل دمٍ سُفك بغير حق...». بهذا ينتقم فاضل عباس من أعداء بلده ليسجل انتصاره على عدوٍ طالما تلذذ بمنظر الدم العراقي المراق، عدو أدمن رائحة البارود المختلطة برائحة اللحم البشري المشوي على نار المفخخات والعبوات الناسفة، ولكنه يبقى نصراً على ورق.