بالرغم من التطور المعماري في معظم المدن الكبرى في العالم، وفي الوطن العربي أيضاً، لا تزال كلها مدناً أفقية. وحدها بيروت، تحوَّلت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من مدينة أفقية إلى مدينة ذات منحى عمودي واضحٍ، تتجه فيها المباني باضطراد نحو الارتفاع المتزايد.
لقد غيّرت فلسفة البناء التي تم انتهاجها في فترة ما بعد الحرب كثيراً من القواعد التي كانت متبعة في السابق. في الماضي كان متوسط مساحة الشقق السكنية في بيروت بحسب مهندسين مخضرمين يبلغ نحو 120 م2، غير ان هذه القاعدة تغيرت تماماً، وبدأت الشقق الكبيرة التي تتخطى مساحتها 500م2 بالظهور لجذب أصحاب الاموال بخاصة من اللبنانيين المغتربين والخليجيين.
إلا أن البناء العشوائي للمباني العالية والابراج الذي يرافقه عدم المحافظة في كثير من الاحيان على الاحياء ذات الطابع التراثي، سيحول بيروت كما يرى البعض إلى مدينة للأثرياء فحسب.
من هنا يبرز السؤال اليوم، هل يكون المستقبل المعماري لمدينة بيروت ان تصبح مدينة ابراج وتحذو خطى جاراتها في المنطقة العربية؟ وكيف يتم ضبط الاستثناءات في مسألة الارتفاع؟ وما الفائدة التي تقدمها؟ هل يتغير وجه بيروت، لتفقد بالتالي شخصيتها بحيث تبتلع المباني العالية والابراج ما تبقى من بيوت قديمة وأثرية؟
يعتبر المهندس المعماري المعلم رهيف فياض "ان بيروت كانت دوماً "مدينة انسانية"، واجتياح الابراج لهذه المدينة العريقة على الصعيد السوسيولوجي غيّر بنية السكان. فالهدف هو اخلاء المباني القديمة من سكانها من خلال قانونيّ الايجار والبناء الجديدين لتحويلها الى مدينة ابراج غير متجانسة. فقد فقدت بيروت طابعها الافقي وخسرت ذاكرتها الجماعية الساكنة في ابنيتها التراثية وباتت مدينة عامودية بامتياز".
حتى ستينيات القرن الماضي، كانت بيروت تظفر بطابع خاص لكنها اليوم فقدت هويتها بحيث بات القانون يشرع تشييد المشاريع الضخمة والمباني وبالتالي لم يعد هناك اي مكان للمباني المحدودة المساحة.
ويتابع فياض: "بحسب قانون البناء الجديد، تتبع الموافقة لإعطاء ترخيص ببناء مبنى مبالغ الارتفاع ثلاثة شروط. فيجب ان يوازي العقار اربعة اضعاف الحد الادنى للافراز الذي يتراوح في بيروت بين 200 و300 متر2. اي ان كل صاحب عقار تخطت مساحته 1000 متر2 بإمكانه التقدم بطلب تشييد برج لدى المجلس الاعلى للتنظيم المدني الذي لا يتحكم الا بالشروط الجمالية للمباني. ثم يدرس هذا الاخير الطلب ويرسله الى بلدية بيروت لتصدر الترخيص. وبسبب غياب الضوابط والشروط والدراسات، تسبب الابراج المنتشرة كالأوبئة، أضراراً على الصعيد البيئي وأخرى على الصعيد الاجتماعي، حيث يتعذر على سكان الابراج تكوين "مجتمع حقيقي".

حتى ستينيات القرن الماضي،
كانت بيروت تظفر بطابع خاص لكنها اليوم فقدت هويتها


من جهة ثانية، تكمن الآثار السلبية لظاهرة الابراج والمباني العالية المشيدة اذا ما تمت بطريقة عشوائية، أنها تقضي على ما تبقى من آثار معمارية تتميز بها بيروت. في حين أن الفائدة الاقتصادية تظهر في نمو حجم الاستثمارات في قطاع العقارات، وجذب رؤوس الاموال، لكن على حساب طبقات معينة حكماً.

بلدية بيروت

في هذا الصدد يوضح رئيس بلدية بيروت بلال حمد: "ان دور البلدية يندرج في منح التراخيص للمشاريع التي لا تخالف قانون البناء، واي استثناء بالارتفاع، يجب ان يحظى بموافقة المجلس الاعلى للتنظيم المدني، قبل أخذ الترخيص من البلدية. غير ان المشكلة الكبرى هي التخطيط العمراني لمدينة بيروت والذي يعود لعام 1955، والذي لا يزال سارياً حتى اليوم من دون اي تعديل".
ويتابع: "اليوم اصبحت أسعار العقارات في بيروت مرتفعة جداً، وقد يتخطى سعر المتر المربع 10 آلاف دولار أحياناً، لذلك يسعى صاحب العقار للاستفادة إلى أقصى حد من كل المساحة متاحة، من هنا، وبما ان المساحات المتاحة اصبحت ضئيلة، يضطر للاتجاه صعوداً من خلال بناء الابراج، والبلدية غير قادرة على تعديل التخطيط العمراني، لذا نسعى إلى المحافظة على ما تبقى من ارث معماري".
كثير من ابراج اليوم قامت على انقاض وبقايا بيوت قديمة وتراثية، والنتيجة كانت فقدان الكثير من مناطق بيروت لهويتها وإرثها الإنساني. الاشرفية اليوم على سبيل المثال، كل ما يحيط بمتحف سرسق المرمّم، هو ابراج ومبان جديدة. هذا التناقض والمزج بين الحداثة والتراث المعماري، بنظر العديد من الخبراء والمهندسين، يجب ان يكون مبنياً على دراسات واضحة وشاملة، وليس على حساب المباني التراثية التي يسعى اصحابها لبيعها بأعلى سعر ممكن للاستفادة من غلاء العقارات.
في هذا الاطار، يشدد حمد على ان "بيوتاً ومباني كثيرة في بيروت اليوم تعد قنابل موقوتة ومهددة بالانهيار، غير ان الانذارات التي ارسلتها البلدية لاصحاب هذه العقارات لترميمها، لم تلق آذان صاغية. ان منع اصحاب هذه العقارات من التصرف بها لانها تعتبر تراثية، قانون غير عادل، ومن الاصح السماح لصاحب العقار ان يتصرف بمساحة معينة شرط ان يرمم المبنى او البيت، فاستملاك كل البيوت القديمة اجراء غير منطقي".
التنسيق والعمل بين بلدية بيروت ووزارة الثقافة لحماية الابنية التراثية وتصنيفها جار بوتيرة عالية بهدف المحافظة على ما تبقى من ارث معماري في المدينة.
من جهة اخرى، يستبعد البعض ان تتحول بيروت الى مدينة ابراج لانها تحافظ على نوع من هويتها، فأبنيتها بالاجمال لا تتخطى العشرة طوابق، وبعض الاستثناءات لا تغير وجه بيروت المعروف، بل ان التطور وانشاء مبان عالية ضرورتان في ظل الاكتظاظ السكاني.

التنظيم المدني

في سياق متصل، يعتبر مصدر مسؤول في المديرية العامة للتنظيم المدني "ان القانون الذي صدر عام 2004 حدد الشروط التي يفترض بالعقار ان يستوفيها لنيل الموافقة على الاستثناء بالارتفاع. وقد حرص التنظيم المدني على ان تكون الاستثناءات مشروطة بعوامل بيئية مثل تجهيز البناء بخزانات مياه لمعالجة مياه الشتاء والاستفادة منها، اضافة الى أن يتضمن العقار حدائق، واستعمال الطاقة الشمسية لتسخين المياه وتوليد الكهرباء. من هنا فإن بناء برج عالٍ يستوفي كل الشروط البيئية افضل من بناء ثلاثة او اربعة مبان عادية، فالابراج تتخذ المساحة صعوداً وهذا افضل من البناء في ما تبقى من مساحات أرضية. ولا بد من الاشارة إلى أن المباني التي يسمح لها بتخطي ارتفاع معين يكون ذلك بعد دراسة طبيعة العقار وفرض شروط معينة عليه".

تسبب الابراج أضراراً على الصعيد البيئي وأخرى على الصعيد الاجتماعي، حيث يتعذر على سكان الابراج تكوين "مجتمع حقيقي"

بات عدد العقارات المؤاتية للبناء في بيروت محصوراً جداً، وبالتالي قد لا يصح القول بأن مستقبل بيروت ذاهب باتجاه الابراج حصراً، فالموافقات الفنية والرخص المعطاة للابراج خلال السنتين الاخيرتين تعد على الاصابع بحسب مصدر متابع.
بدوره يلفت النقيب السابق للمهندسين ايلي بصيبص إلى "أن المباني الجديدة تتجه صعوداً بغية زيادة الاستثمارات من حيث عدد الشقق، أما المشكلة الفعلية فتكمن في غياب مخطط توجيهي عام للاراضي اللبنانية. من هنا ان وجود الابراج والمباني العالية بشكل عشوائي لا يراعي البنى التحتية وقدرة استيعابها وما يرافقها من اسعار شبه خيالية، يجعل من بيروت مدينة حكراً على الفئات الثرية".
ويتابع: "التخوف اليوم اذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، أن تخلو بيروت من أهلها، بحيث تصبح مجرد ابراج شاهقة خالية من الحركة، وتغدو شيئاً فشيئاً مجرد إسمنت وزجاج. برأيي الاجدى أن يتم ترك قسم من بيروت بطابعه التراثي القديم وعدم تحديث كل المباني. وبناء ابراج تحتوي اربع او خمس شقق في كل طابق لتستوعب قد يكون افضل من بناء ابراج لا تحوي الا الشقق والمكاتب الفخمة، بهذه الطريقة تبقى بيروت ملكا لكل الفئات".
ان العمارة ليست مجرد بناء هندسي ذي جمالية، بل هو أيضاً علامة اجتماعية تاريخية، تشبه المحيط الذي تتألف منه.
من هنا حظيت "الابراج" في دول كثيرة بنوع من الولع والشغف بها كما في اوروبا، وأميركا، وأوستراليا، و في دبي، وأبو ظبي وفي الدوحة...
في كل تلك البلدان قد تشبه الابراج الشاهقة طبيعة المحيط المنتمية اليه وقد تكون رمزاً ايجابياً. غير انها في بيروت، المدينة التاريخية المستحدثة لا تضيف اية قيمة بل هي تسلب واحدة من اعظم المدن "انسانيتها".
بحسب آخر الدراسات يعيش 450 شخصاً في كل كلم2 في بيروت وضواحيها اليوم، رقم يطرح اشكاليات عديدة لا تتم معالجتها بالجنوح صعوداً.