قصّة تدهور بيئة الاستثمار في لبنان أضحت مملّة. سنوياً تصدر التقارير الدورية التي تشرح كيف يتراجع لبنان على سلّم مقومات أداء الأعمال أو مؤشرات الفساد نتيجة ترهّل بناه المؤسساتية ونتيجة نظام المحاصصة الطائفية الذي يتآكل في كنفه الاقتصاد. ولكن بين الفينة والأخرى تتغلّب البلاد على نفسها، وتجذب العين الغربية لتفقّد هذا الوعاء الاجتماعي الذي يحوي شتى أنواع العواصف.

في هذا الإطار، خصّصت أخيراً صحيفة "إيكونوميست" مساحة للحديث عن مشكلة "مافيات مولّدات الكهرباء" وذلك انطلاقاً من حادث تخريب مولدات شركة كهرباء زحلة بعدما وعدت الأخيرة بأن تؤمّن قريباً كهرباء 24/24 لأبناء المنطقة التي تخدمها؛ صحيح أن المخرّب هو "المجهول نفسه" ولكن إصبع الاتهام المنطقي توجّهه المجلة صوب المافيات نفسها تحت عنوان سينمائي: "أضواء، أسلحة... ولتبدأ الحركة".
يختصر هذا الوضع مأساة بلد بكامله حيث "تنضم أصوات مولدات الكهرباء عند كل زاوية إلى أصوات الرصاص الاحتفالي وأبواق السيارات لتشكل الأصوات المعتادة" تقول المجلة البريطانية. وأيضاً، حيث يتم تطوير تطبيقات الهواتف الذكية لمعرفة متى ستنقطع الكهرباء؛ وتطبيق Beirut Electricity شاهد على حاجة البيروتي التي تبدو من القرن التاسع عشر.

قبلة البيزنس

أمام هذا الوقع، يبحث اللاهثون وراء الانضمام إلى صفوف الطبقة الوسطى الإقليمية التي تهدف إلى راحة البال، عن الاندماج في جيش العمل المنتشر في بلدان الخليج العربي الغنية بالنفط والمتعطّشة للعمال المهرة والاختصاصيين.
ومن غير الإمارة المتألقة، دبي، المشهورة بانفتاحها على العالم من شرقه إلى غربه والناسخة للكثير من سلوكيات بيروت نفسها، لكي تستقبل هؤلاء اللاهثين. فهي اليوم، وبعد أكثر من عقدين من التخطيط والنسخ والأرقام القياسية، أضحت مصدر وحي لمشاريع في أقطار أخرى، أبرزها "أطول فندق" سيُشيد في جبال الألب السويسرية خلال السنوات الأربع المقبلة ويكون "من وحي" روح دبي ويحمل بعض أوجه الشبه مع برج خليفة الشهير.
لطالما شكلت دبي قبلة البيزنس التي يهواها اللبناني. اليوم تُصقل سمعة دبي بكونها مركزاً إقليمياً، بل عالمياً، للتجارة والتبادل بمجموعة من الإنجازات آخرها كان رفع تصنيف الإمارات العربية المتّحدة من سوق واعدة إلى بلد نامٍ على سلم مؤشر MSCI المالي العالمي.
هكذا ينطلق التقرير الأخير لمجموعة أوكسفورد للأعمال (OBG) عن الإمارة الخليجية. يحتفي بكونها المضيف المرموق لمعرض Expo2020 الدولي التي يُفترض ان يؤمّن مروحة واسعة من الفرص للمستثمرين.

القطاعات الواعدة

القطاعات الواعدة كثيرة، يقول التقرير. "نشاط البناء يزدهر مجدداً، مدعوماً بمجموعة من المشاريع التجارية بما فيها التخطيط لبناء أكبر مجمع تجاري في العالم". كذلك فإنّ "قطاع النقل والنشاطات اللوجستية يستعد لتطور كبير يرسّخ مكانة دبي الإقليمية والعالمية".
يُضاف إلى ما تقدّم التطورات المرتقبة في قطاع الضيافة والسياحة عموماً، إضافة إلى تحديث المطار لتحفيز الزائرين.
لا يحتاج المرء إلى فطنة خارقة لكي يرصد مدى تأثر لبنان بقفزات مرتقبة كهذه في الإمارة الجارة، فهو أساساً يعاني منذ قرابة خمس سنوات نتيجة الاضطرابات الإقليمية التي عصفت به سياسياً وحوّلت الأرباح الإقليمية إلى الحسابات الإماراتية.
في الحقيقة استطاع لبنان لوهلة، تحديداً غداة اندلاع الأزمة المالية العالميّة، استعادة لقب البطل المالي والسياحي الإقليمي، بعدما غرقت دبي والخليج بكامله معها في فقاعة العقارات والتجارة الوهمية التي انفجرت بموازاة الانفجار العالمي. ونتجت تلك الفقاعة من الاستثمارات الحامية والأموال النفطية والانجراف وراء روح البذخ الاجتماعي، ولم تنجُ الإمارة منها سوى بمساعدة من الدولة الأمّ لتغطية قروض هائلة مرتبة عليها.
أخيراً عاد القلق من إمكان نشوء الفقاعة نفسها. صحيح أنّ التجربة علمت حكام الإمارة الكثير، ولكن التحديات تبقى موجودة وخصوصاً أنّ الانعتاق من الارتهان للنفط لا يحقّقه سوى التنويع الاقتصادي الطموح. لذا يُصبح الازدهار الاقتصادي المستدام للإمارة ومعها الخليج برمته، مرتبطاً بمستوى تنويع النشاط الاقتصادي وتحفيز المبادرة والابتكار.
تقول ورقة بحثية أعدها خمسة باحثين لصالح صندوق النقد الدولي، نُشرت في كانون الأول 2014 تحت عنوان "مستقبل التنويع الاقتصادي في مجلس التعاون الخليجي"، إن التجربة العالمية بيّنت أنّ تنويع النشاط الاقتصادي بعيداً عن النفط هو في "غاية الصعوبة".

المرض الهولندي

"هناك مجموعة من العوامل التي تعوق هذا التنويع بينما فيها التذبذب الاقتصادي نظراً للارتباط بإيرادات النفط؛ التآكل الذي يصيب نظام الحوكمة والمؤسسات الرسمية نتيجة الإيرادات النفطية (السخية) إضافة إلى المخاطر النقدية الناجمة عنها والتي تتمظهر تحديداً في اسعار الصرف المضخّمة – أي العوارض العامّة للمرض الهولندي".

المصالح المشتركة التي يُمكن رصدها عبر مقاطعة احتياجات الخليج ومقومات العامل اللبناني يُمكن أن تطغى على الاعتبارات السياسية


وهذا "المرض" هو عبارة عن العوارض التي تصيب النظام الاقتصادي والنقدي لبلد ما شهد غنى نفطياً وأضحى يعتمد على إيرادات الوقود الأحفوري لتحفيز النشاط الاقتصادي، إذ مع تزايد المداخيل وتحوّل الأنشطة لتشكّل إطاراً يخدم الصناعة النفطية، يشهد الاقتصاد اختلالاً في معدلات الإنتاجية وفي أسعار الصرف.
ولكن للمفارقة "نتيجة توفّر العمالة الرخيصة في منطقة (مجلس التعاون الخليجي) فإنّ الإيرادات النفطية المرتفعة لم تدفع الأجور صعوداً، وبالتالي فإنّ التأثيرات التقليدية للمرض الهولندي لم تكن واضحة" تتابع الدراسة.
صحيح أن العمالة الرخيصة – التي، للمناسبة، تعيش الأمرين وحتّى الموت اليومي في بلدان مجلس التعاون الخليجي وتحديداً في قطر في إطار التحضيرات لكأس العالم لكرة القدم 2022 – تُجنّب الخليج الكثير من الأمراض، إلا أنها في الوقت نفسه تجعل الشركات كسولة ومكتفية بأرباح الإنتاج للسوق المحلية من دون المخاطرة للتصدير، وذلك في ظلّ نظام وظيفة عامّة يُشبع المواطنين (الأصليّين!).
من هذا المنطلق تتحدث الدراسة عن "حلقة مفقودة" في رحلة البحث عن تنويع الاقتصاد الخليجي، وهي "الحاجة إلى تغيير جذري في بنية التحفيز المعتمدة للشركات وللعمال على حدّ سواء" بهدف تشجيع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية لتحقيق نقلة على مستوى التصدير.
هكذا، يبدو أن التحديات الماثلة أمام الخليج ليست بالسهولة التي قد يفترضها التسليم بالغنى النفطي؛ ولا يقتصر الأمر على بعد المؤشرات الإيجابية لدى المقارنة مع بلد مثل لبنان (راجع الكادر المرفق).
لذا يُصبح السؤال هو كيف ستجذب دبي ومعها الخليج العمال المهرة، وعلى رأسهم اللبنانيون؟ لكي تُحقّق تلك النقلة، تماماً كما جذب الخليج برمته العمالة الرخيصة واستغلها للنجاة من براثن المرض الهولندي؟
في الواقع، تماماً كما ساهم اللبنانيون في ازدهار البلدان الخليجية عبر استثمار الخبرات الأكاديمية والغنى المعرفي في اقتصادات المنطقة العربية تبدو تلك البلدان بحاجة إلى موجة جديدة من روح المبادرة اللبنانية، التي قد تنجح ربما في إنقاذ تلك من لعنتها، وربما دبي من بلاستكيتها.
اليوم هناك حساسية في الأجواء اللبنانية – الخليجية لا يُمكن أن تمحيها رحلات الذهاب والإياب التي تزدهر فيها. فبين لبنان والسعودية هناك الخلافات السياسية التي تأجّجت أخيراً، كذلك الأمر مع الإمارات العربية المتّحدة التي قرّرت سلطاتها أخيراً أن ترحّل مجموعة من اللبنانيين لأسباب يُغرف عادةً من البئر السياسية لشرحها.
غير أنّ المصالح المشتركة التي يُمكن رصدها عبر مقاطعة احتياجات اقتصادات الخليج ومقومات العامل الماهر اللبناني يُمكن أن تطغى على الاعتبارات السياسية. طبعاً، إذا اعتمدنا مبدأ الربح والخسارة فقط.




بين الأرز والخليج... الفارق واضح