تحت الشجرة العتيقة، التي صارت اليوم تحرس بيوتاً من السقوط، كان «الخال» أبو العبد يقضي النهارات المشمسة من حياته. يستيقظ فجراً. يصلّي ويمضي حاملاً كرسيين: واحد سيجلس عليه والآخر سيبقى فارغاً بانتظار من سيملؤه. هناك، سيصرف الجزء الأكبر من سنواته اللاجئة... من منطقة الراجدية الكردية على الحدود التركية، الهارب منها «لأسباب سياسية». حينذاك، لم يكن «الخال» شكري سعدو قد أكمل العشرين من عمره. هرب وحيداً. سلك «سكّة» الهجرة عبر حمص وصولاً إلى لبنان، حيث التجأ إلى حيّ البدوي، الذي صار يعرف بشارع الكُرد، على مقربة من نهر بيروت وبقي فيه سنوات قليلة، قبل أن ينتقل إلى زقاق البلاط التي صار ذاكرة الكُرد فيها.
70 عاماً في الزقاق، قضى منها الجزء الأكبر تحت الشجرة. لكنها، مع مرور الوقت، لن تعود الفسحة التي أمامها تتّسع. ضاقت الدار بأهل كثيرين، دلفوا إليها هاربين «لأسباب سياسية» وأخرى معيشية من مناطق كردية عدّة. سيهجر الشجرة التي ستبقى لتحرس الذاكرة الضئيلة في دار الكُرد.

الهجرة الأولى: حي البدوي

قبل بضعة أسابيع، أكمل أبو العبد 98 من عمره، منها 60 عاماً قضاها في «زقاق الهجرات». الكل يحفظ وجهه. هذا الوجه المقيم هنا، منذ كان «صحن الفول وكيلو الخبر بربع ليرة». هكذا، يحلو للرجل توقيت لجوئه إلى الحي. أو، في أحسن الأحوال، عندما كانت الزقاق «محشورة حشر بالشجر».
اليوم، لم يبق من تلك «الدليّات» إلا الذكرى وهو، المرابط عند ناصية الشارع. بعد تلك السنين الطويلة، لا يزال الرجل يلتزم عاداته. يترك إلى جانبه كرسياً فارغاً وفنجان قهوة للضيوف. المهم بالنسبة إليه، ألا تفرغ الدار، التي كانت أرضاً خضراء رحبة «تتفرطع» فيها غرف صغيرة بنيت للهاربين على عجل. يتذّكر الرجل الهجرة الأولى التي افتتحها هو منتصف ثلاثينيات القرن الماضي في الزقاق، منتقلاً من حي البدوي الذي كان محطة بالنسبة لكُرد كثيرين قبل أن يستقروا. عندما وصل إليه، استأجر غرفة صغيرة من آل قمّورية بليرة، كانت تقع بالقرب من «كرم» بسّون، المعروف الآن بمجمّع أهل البيت التربوي. آخر فسحة خضراء في المنطقة التي تعرّت نهائياً من ذاكرة من كانوا ناسها.
هناك، بالقرب من الكرم، بنى الكُرد حيواتهم الموقتة، في غرف استأجروها، شفوياً، لمدة 99 عاماً، إذ لم يكن يوجد ما يسمى بعقود الإيجار.
كان الفقر قاتلاً. لهذا، لم يعوّل الكُرد على الغد. فالمهم «ألا نموت اليوم من الجوع والغد يأتي لاحقاً». يتذكر أبو العبد تلك الأيام عندما كانوا ينادونه بـ»القبضاي»، حيث «كنت أحمل 8 صناديق دفعة واحدة». هذا «القبضاي» هو نفسه، بحسب ذاكرة من هم في مثل عمره، من أنزل العلم الفرنسي عن مبنى البرلمان ليضع مكانه العلم اللبناني، وإن لم يكن لبنانياً في حينها. كان كردياً فقيراً، لم يكن ليرمي «البحص بالبير اللي شربت منو». هكذا، بنى الكُرد علاقتهم بلبنان. بلد اللجوء. وإن كان الأخير لم يبادلهم الحسّ نفسه. يتذكّر أبو العبد أنه عاش بهوية فرنسية «على إيام الانتداب»، لا طائل منها، حتى عام 1994، ليحمل بطاقة البلد الذي يعيش فيه منذ 70 عاماً، والتي لا تسمن ولا تغني عن جوع.


الهجرة التالية: حوش الكراد

عندما يستيقظ أول موظف هناك، يُفتح باب الحي. رويداً رويداً، تدب الحركة في الحوش الصغير الذي لم يعد يؤوي إلا 25 عائلة من الكُرد اللبنانيين، «ريّش» أطفالها وهاجروا. يخرج الساعون إلى رزقهم، فيما تبقى ربات البيوت تحرسن النهارات الطويلة أمام الغرف التي صارت مع الوقت فضفاضة بغياب الأبناء. عند باب الحي، تجلس «الست» لميا. العجوز العزباء مع سيجارتها. تبقى حتى «تتضبضب» الشمس. الكل يفعل ذلك هناك. يهربون إلى الزواريب الضئيلة في الحي، متوسلين الشمس التي ضاعت بين الغرف المحشورة جنباً إلى جنب وفوق بعضها البعض.
لا تفتح الشبابيك هناك، إلا شبابيك الطبقات العليا، تلك المشرّعة للسماء. أما السفلية فتبقى مقفلة عن عيون الغرباء العابرين، فيما تجلس النسوة أمام المداخل يحضرن «تحويجة» الطبخة، مع فنجان قهوة، يرتشفنه بحميمية، تشبه الحياة في تلك الزواريب الأنيقة، على ضيقها. ذلك الضيق الذي لا يمكن للعابر أن يشعر به، لشدّة أناقته، حيث يحرص الساكنون على تزيين المداخل، ولو بباقة ورد اصطناعي. أما الأجمل من كل ذلك، فالعبارات المزروعة على الأبواب التي ستخمّن معها، مثلاً، اسم البلاد التي هجروها قبل تلك الغربة الطويلة. فيحلو لك مثلاً أن تغنيها: سكّة حلب يا سكة العاشقين.
الأبواب هناك تختزل سيرة الهاربين الذين ما إن يقفلوها، حتى يعودوا «كُرداً أصليين»، يقول أبو أيمن فخرو. يضيف مبتسماً: «مطرح ما فيه ريحة كردي بنركض». ثم يقول مبتسماً: «بنلفّ على بعض في كل شيء»، حتى في الزواج. لهذا مثلاً «نادراً ما تجد كردياً تزوجّ لبنانية، لأن للكُرد عادات وتقاليد لا يفهمها إلا من هم مثلهم». قد يعودون إلى بلدهم الأم للزواج. ليس «ذمّاً» باللبنانيات، وإنما لأنهم يريدون المحافظة على شيء من «ريحة» البلد: اللغة والعادات. وهذا شيء يعوّل عليه هؤلاء «لأننا سنعود يوماً ما»، يقول أبو شيرغو. يحاولون قدر الإمكان الحفاظ على كرديتهم، على الأقل في الحوش: دار أبو ابراهيم، كما يسمونها هم. الدار التي وهبها البيروتي، «عن روح ابنه»، لهم عندما هربوا. 25 عائلة، يتضاءل أفرادها كلما سنحت الفرصة لأحدهم بالهجرة. يفتحون باب حيهم صباحاً ليوصده آخر العائدين ليلاً.


الهجرة الثالثة: ديار الله الواسعة

في عام 1982، وجد الكُرد أنفسهم في قلب الحرب. حينذاك، لم يكن في حوزتهم إلا أرواحهم، إذ أن كثيرين منهم بلا جنسية. ويردّ أبو شيرغو السبب إلى «قلة الثقافة بين أبناء المجتمع في السنوات التي تلت الهجرتين الأولى والثانية ـ حيث كان الكل مشغولاً بلقمة العيش، ولا مبالاة الدولة اللبنانية لما تعانيه الأقليات». النقطة الأخيرة هي الأهم، فثمة أزمة علاقة مع الدولة، وهي التي دفعت بالكُرد إلى التفكير بـ»الخرطوشة» الأخيرة: الهجرة. هذه، التي نشطت بعد عام 1982، وكانت كلما «ريّش» أحدهم، يستقل طائرة إلى بلاد الله الواسعة، واليوم «يعملون في أحسن المهن»، يضيف أبو شيرغو. وبفخر، يتكلم عن أبنائه المهاجرين «عندي واحد دكتور ومهندسَيْن وواحد عم يكفي جامعة والخامس معلم بوظة ايطالي». لم يفكّر أبو شيرغو بأن يلحق أياً من أبنائه في السلك العسكري، بعدما نالوا الجنسية، فهذه «لا تطعم خبزاً، ثم إن الكُرد ليست لهم حصة هنا». لهذا، ربما، هم يؤمنون «بالشغل الحر، بيطعمي خبز، على الأقل بيحضّرك حفلة لعبد الحليم حافظ وفيفي عبدو»، يقول مبتسماً. كان ذلك في عام 1967، عندما كان يعمل أبو شيرغو في «أفخم دار للخياطة»: دار فرنيني. حينذاك، شارك في خياطة «بدلة للفنان عبد الحليم حافظ، فأعطوني بطاقة لحضور حفلة له ولفيفي عبدو».

العصفور يكفل الزرزور

تعرّت الزقاق سريعاً من أشجارها. فالهجرات المتتالية فعلت فعلتها في المنطقة. قضت على فسحة السماء التي كانت قبل أن ترتفع مبانٍ طويلة، صار أصغرها أربع طبقات. بقيت آثار ضئيلة من الحقبة الهادئة منها دكّان أبو العبد ودار أبو ابراهيم المسمى بحرش الكُرد وقصر مخيّس في الضفة المقابلة.
أمام الدكان، حيث يقضي أبو العبد نهاراته، علّق الرجل صورة بيان قيد إفرادي متهالك تظهر منه صورة عتيقة بالأبيض والأسود له واسم البلاد التي لم يرها منذ تلك السبعين اللاجئة: ديار بكر. هذا ما يحتفظ به الرجل من موطنه الأول. أما هنا، فلم يؤسس شيئاً. الدكان والغرفة الصغيرة التي يقطنها مع ابنته سلمى يدفع ايجارهما في الشهر 165 ألف ليرة. يكفيه هذا الترف، ولا يرغب في التملك هنا، لأن «العصافير طارت»، في إشارة إلى أولاده المشتتين في الغربة. يتذكر فجأة بأن الكُرد هنا «عصافير أيضاً»، يقولها مبتسماً، مسترجعاً حادثة مع شاب لاجئ هو الآخر. مثل «حكايتنا»، يقول.
حدث ذلك قبل سنوات ضئيلة، عندما تسلل العجز إلى قدمي أبو العبد، فلم يعد قادراً على إيصال عبوات الغاز إلى البيوت. استعان بشاب لإيصالها مقابل «مقطوعة»، ففرّ بها وباعها. وبما أن في الزقاق، الكل «يحبّ» أبو العبد، فقد أحضر أحدهم الشاب إليه، طالباً منه أن يفعل به ما يشاء أو يعيده إلى العمل على كفالته. عندها، قال الرجل: «اتركوه يا عمي، بدكن العصفور يكفل الزرزور؟».
الهوية لم تغير شيئاً. بقي أبو العبد «زرزور». فالدولة «لم تفعل معنا شيئاً»، تماماً كما هي علاقتها مع فقرائها. «لا نعرف عن خدماتها شيئاً ولا عن الوظائف فيها». هذه الدولة التي لا تلتفت هي نفسها التي تدسّ في جيوب الفقراء ليرات ضئيلة في مواسم الانتخابات. وبما أنها قلّت هذه المواسم، فقد انقطع المحسنون عن هؤلاء الذين على عيشهم بلا «رأس». اعتمدوا على أعمالهم الحرة في غالبيتها. نسوا الدولة والدخل الإضافي الذي كان يأتيهم من مواسم الانتخابات. يتذكر أبو العبد إعاشات الرئيس رفيق الحريري «كان يجي كميون محمّل بالإعاشات ويوزعوا علينا، كان متل بابا نويل». أما اليوم، فلم يعد يأتي بابا نويل. أكل «قتلة» من الوافدين الجدد إلى المنطقة: حزب الله وحركة أمل، وفرّ هارباً. ولم يبق ما يدل على أثره إلا اللون الأزرق الذي صبغت به بوابة الحوش. اللون الضائع اليوم بين صور الشهداء العائدين من الحرب الدائرة في سوريا. هنا، يتذكّرون «بابا نويل» الأكبر بشيء من الحنين لأيام «الإعاشات». حيث تمر اليوم المواسم بلا شيء، باستثناء زيارات «الفعاليات» للكُرد في أفراحهم وأتراحهم وأعيادهم الوطنية. مع ذلك، هم ينتخبون «الأزرق»، يقول أبو العبد. ويقول مبتسماً: «يمكن لإننا سنّة، محسوبين على الرجل»... وإن كان لا ينوبهم من تلك الضوضاء إلا الزيارات لتجيير 25 ألف «راس»، فقط لا غير. تلك الرؤوس التي لا تمكنهم من تنصيب نائب عنهم، لأنهم أقليات محسوبة على أقليات أخرى. ببساطة مفرطة. أما في الانتخابات الاختيارية، فيجلبون «مختاراً كردياً». ولكن ذلك، لا يتم إلا بالتوافق مع الحزبين الحاضرين هناك. وهما الآن: الحزب والحركة.