القاهرة | بعد 38 عاماً من غيابه، ليس في حياة عبد الحليم حافظ (21 يونيو 1929 - 30 مارس 1977) علامات مفقودة. مَن أدمن الاستماع إليه، يحفظ سيرته كما يعرف قائد الطائرة محطة الهبوط من إحداثيات واقعة في الغيم. المطرب الذي نال لقب «العندليب الأسمر» أخفى شقاءه في رهافة صوته وظلت «ندبة الفقر» التي ولد بها معلّقة في الواجهة كشارة نصر وأثر لا يمحى.استثمر عبد الحليم هذه الندبة بذكاء يصعب تفاديه، وتعامل معها كما تتعامل نجمة سينمائية مع شامة حسن ولدت بها. عاش ومات مريضاً بشقاء «البدايات» رغم أنّ صوته كان عنواناً لعصر أخفى إخفاقاته السياسية تحت أصوات غنائية اتسمت كلها بالسطوع الذي يلائم أحلاماً طليعية حركت جيل «ثورة يوليو» 1952. ولد العندليب في قرية الحلوات في محافظة الشرقية.

كان الابن الأصغر بين أربعة إخوة هم إسماعيل ومحمد وعلية التي لعبت في حياته دور الأم ولم تتنازل عنه أبداً حتى عقب وفاته. تشكل تجربتا اليتم وفقدان الأم مع داء البهارسيا العنوان الأبرز في سنوات طفولة حليم ومراهقته التي لا تختلف اختلافاً جذرياً عن حياة أغلب فقراء مصر من أبناء الريف. كانت الكتاتيب المدرسة الأولية حيث أتيح له تلقي أبسط أنواع التعليم، لكن خلافاً لمن كانوا معه، تابع مسيرة شقيقه الأكبر اسماعيل شبانة مع الغناء.
استناداً إلى تجربة الأخ الأكبر، التحق حليم بـ «معهد الموسيقى العربية» (قسم التلحين) عام 1943 وتعرف هناك إلى كمال الطويل الذي كان طالباً في قسم الغناء والأصوات. درسا معاً في المعهد حتى تخرجهما عام 1948. بعدها، رشِّح للسفر في بعثة حكومية إلى الخارج، لكنه ألغى سفره وعمل لأربع سنوات مدرساً للموسيقى في طنطا ثم الزقازيق وأخيراً في القاهرة، ثم قدم استقالته من التدريس. التحق بعدها بفرقة الإذاعة الموسيقية عازفاً على آلة «الأبواه» عام 1950. في الإذاعة، تبادل مع كمال الطويل الأدوار، إذ تحول الى مغن، وأصبح الطويل ملحناً بارزاً. لكن نقطة التحول الرئيسة جاءت من لقاء مع محام من كبار هواة الفن هو مجدي العمروسي الذي أصبح لاحقاً رفيقه وشريكه التجاري. لعب العمروسي الدور الأكبر في تيسير مهمة العندليب في الغناء في الإذاعة بعدما تبناه رئيسها حافظ عبد الوهاب الذي سمح له باستخدام اسمه «حافظ» بدلاً من شبانة. اعتُمد عبد الحليم مطرباً بعدما قدم قصيدة «لقاء» (كلمات صلاح عبد الصبور، وألحان كمال الطويل) عام 1951، في حين ترى مصادر أخرى أن ّإجازته كانت عام 1952 بعدما قدم أغنية «يا حلو يا اسمر» (كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي). لكن الأكيد أنّه غنى «صافيني مرة» (كلمات سمير محجوب، وألحان محمد الموجي) في آب (أغسطس) عام 1952 ورفضتها الجماهير في الوهلة الأولى، إذ لم يكن الناس على استعداد لتلقي هذا النوع من الغناء الجديد. لكنه أعاد غناء «صافيني مرة» في حزيران (يونيو) عام 1953، يوم إعلان الجمهورية، وحققت نجاحاً كبيراً. مصادفة جعلت نجاحه مقترناً بصعود «ثورة يوليو»، ثم تم اعتماده مطرباً لها. تبنت الثورة صوته واختارت ملحنيها من بين مجايليه كمال الطويل والموجي. كان الأول الاكثر التصاقاً بمشروعها السياسي وانحاز لها بوضوح حتى تغلب ملحّنو الجيل السابق على التردد الذي صاحب عملية التغيير السياسي العنيف. بعد فترة تأمل، سعى محمد عبد الوهاب بذكائه المعتاد إلى استثمار النبرة المغايرة لصوت عبد الحليم التي تستمد حلاوتها من الضعف لا من قوة الصوت.

حكايات حب غير مكتملة جعلته دوماً عاشقاً محتملاً لكل الجميلات

وكما كانت إطلالة جمال عبد الناصر وصحبه من الضباط الأحرار معياراً لوسامة خلقتها الثورة، كانت صورة عبد الحليم ونبرته الهشة معياراً لوسامة من نوع أخرى تنسجم مع الشفقة التي نعرفها في صورة فاتن حمامة والأنوثة الطاغية في إطلالة سعاد حسني والتطلع الموجود في أداء نادية لطفي. ثم بدا عبد الحليم منسجماً تماماً مع لحظته التاريخية التي قامت على إبدال وتغيير في المواقع ليس فقط على الصعيد السياسي، بل أيضاً على صعيد تكون الانحيازات الجمالية التي تجلّت بوضوح في تعاونه الفذ مع محمد عبد الوهاب. توقف الأخير عن الغناء وترك الساحة تماماً لمطرب جاء مثله من خلفية شعبية، لكنه يعبر عن الثورة التي تردد عبد الوهاب في الالتحاق بها في البدايات، كونه مطرباً للعهد البائد وتحول معه إلى «موسيقار الأجيال».
تعكس الأغنيات التي رسخت لشعبية حليم مثل «أهواك»، «نبتدي منين الحكاية»، «فاتت جنبنا»، صيغة فريدة من صيغ الشراكة والاختلاف من خلال السعي إلى بناء سرديات جديدة في الغناء المصري تخالف سردياته الكبرى التي خلقتها أم كلثوم وفريد الأطرش وتقارب الى حد كبير ما تقدمه الحياة اليومية من فرص للتواصل لم تكن متاحة لجيل أم كلثوم وعبد الوهاب. فرصة شهدت تطوّر النصوص الكلاسيكية مع الشعراء حسين السيد، ومرسي جميل عزيز، ومأمون الشناوي الذين قدموا نصوصاً غنائية أقصر تقوم على صيغ التكثيف والمفارقة. جاءت نقطة التحول الأخيرة في حياة حليم بتعاونه مع بليغ الملحن الأكثر شعبية من بين كل ملحني جيله.
نجاح هذا التعاون جاء من مصدر لا يختلف عن مصادر الشرعية السياسية التي تغذت عليها «ثورة يوليو» وهي الانحياز إلى الريف والطبقات الفقيرة وتبني خطط الإصلاح الزراعي والتأميم. قام مشروع بليغ بكامله على استلهام الغناء الشعبي. ساعدته في ذلك نصوص عبد الرحمن الأبنودي، ومحمد حمزة، وعبد الرحيم منصور وظهرت أغنيات مثل «زي الهوا»، «سواح»، «حاول تفتكرني»، «أي دمعة حزن لا»، «موعود» و«أنا كل ما اقول التوبة»، «أعز الناس». وكما نجحت أم كلثوم في توطيد صلاتها بالناصرية وتحولت إلى معبر قوي عن خطابها العروبي اعتباراً من معركة 1956 ثم حفلات المجهود الحربي بعد نكسة الـ 1967، فإنّ عبد الحليم اعتبر نفسه مهزوماً مثل النظام الذي عبر عن طموحات مؤيديه. لذلك، عبّر بإخلاص عن رغبة في مراجعة التجربة ومقاومة الهزيمة كما عبرت عن ذلك أغنيات «المسيح»، «عدى النهار» (كلمات عبد الرحمن الأبنودي وألحان بليغ حمدي). وكما جعلت أم كلثوم أسطورتها أداةً من أدوات القوة المصرية الناعمة، طغى حضور عبد الحليم على حضور مجايليه في أرجاء العالم العربي ووطد صداقته بزعماء تاريخيين من أمثال الحبيب بورقيبة، والحسن الثاني.
يعرف المتابع لسيرة حليم معنى الجملة التي صاغها صديقه الصحافي الراحل محمود عوض الذي كتب له مسلسلاً إذاعياً شهيراً وكانت تقول: «كان لعبد الحليم صوت ضعيف، لكن كان له مجلس إدارة قوي يدير موهبته». عبارة تفسر شغف حليم بصداقة كبار الصحافيين بداية من مصطفى أمين، وأحمد بهاء الدين، وإحسان عبد القدوس وحتى جيل مفيد فوزي، ومنير عامر، ومحمود عوض. صداقات منحته مصادر ثقافية مختلفة وجعلت حياته مادة صحافية غنية تغذت من مصادر بعضها يتعلق بظروفه الصحية، وبعضها الآخر يخص حكايات حب غير مكتملة جعلته دوماً عاشقاً محتملاً لكل الجميلات اللواتي اعتبرن غيابه خسارة شخصية وفقداً لا يمكن تعويضه. لحظة التقطها بقوة الشريط السينمائي «زوجة رجل مهم» (1987) لمحمد خان لأنّ ما عاشته بطلة الفيلم ميرفت أمين بقوة الربط بين يومياتها وأغنيات العندليب كان جزءاً من ذاكرة شكلها عبد الحليم ولا يزال. إذ يوقف عشّاقه مؤشر إذاعة «الأغاني» المصرية بين السابعة والسابعة والنصف مساءً بحثاً عن «الزمن المفقود».