ترجمة وتقديم: محمد الحموي
بعدَ شهرٍ واحدٍ فقط على تشخيصه بمرض سرطان البنكرياس والكبد، توفي الشهر الماضي (14/02/2015) في كاليفورنيا الشاعر فيليب ليفين الذي كان معروفاً بشاعر الطبقة العاملة. تأثر ليفين بحركة «الياقات الزرق/ العمال» حيث عمل منذ يفاعته في معامل لتصنيع السيارات في ديترويت أثناء حقبة الركود الاقتصادي. ليفين المولود عام 1928 الذي فاز بجائزة «بوليتزر» عام 1995 عن مجموعته «الحقيقة البسيطة»، وسُمِّيَ أيضاً الشاعر الأول في أميركا لعامي 2011-2012، لم تتوقف كتاباته عن نهل مضنٍ من معين اليومي والعادي العابر، وقد كان ذلك تقصداً ونهجَ حياةٍ أيضاً. وبالرغم من أن ليفين درَّس في جامعات أميركية عدة، إلا أنه كان بعيداً عن الأجواء الأكاديمية للشعراء المجايلين له، فكيفَ يكونُ وهو الشاعرُ الذي كان بعيداً كل البعد عن التجريد والاستطراد اللغوي؟ هذا ما جعل نقَّاده يجمعون بينه وبين والت ويتمان، من حيث جنوحه نحو سرد التجارب اليومية بأسلوب حواري بسيط يسترجع من خلاله ومضات تضيء عوالم أشخاص عاديين في ظلال غير عادية، تمتد لتغطي العمل والأبوة، وتصل إلى لبِّ الشعر نفسه.
في ثلاثينيات القرن الماضي، وأثناء إقامته في إسبانيا، كتب ليفين قصائد تمجِّد نضال الإسبان المقاتلين ضد حكم فرانكو أثناء الحرب الأهلية هناك. وبعد عودته إلى الولايات المتحدة الأميركية، اشتهر ليفين بمناهضته لحرب فييتنام وكان من أشد الأصوات المدافعة داخلياً عن الحقوق المدنية في أميركا وعن حقوق العمال، وكان من بين منابر الحركة العمالية التي رفضت دفع الضرائب حتى تتوقف الحرب في فييتنام. لكن ذلك «النشاط» ــ الذي بالطبع ترك أثراً كالجرحِ في قصيدته ـــ لم يشكل كلّ هويته المتنوعة الأوجه والغنية أيضاً، فقد قال مرةَ في حوار قديم له مع «باريس ريفيو» عام 1988: «أخيراً أدركتُ أني لستُ رجل أفعالٍ ولستُ ذلكَ الشاعر الأخلاقي والشهم الذي لا يهابُ ظلمة السجون أو التعذيب أو المنفى. أنا ببساطة شخصٌ يحب التأمل، أقصدُ زاويةً، أحتلها وأكتب».
هنا ترجمة لقصيدتين من شعره:




الخوف والشهرة

نصف ساعة لأرتدي ثيابي، بوطٌ عريض وعالٍ مصنوعٌ من المطاط،
قفازان يصلان إلى المِرْفَق، خوذةٌ بلاستيكية
كخوذةِ الفارس لكن لها نافذة زجاجية يتصاعدُ منها البخار،
وجهاز تنفسٍ اصطناعي
ليحفظَ رئتيَّ الملطختينِ بالدخان. أهبطُ

ببطءٍ إلى عالمِ خزانِ التقطير سيئ الإنارة
حيثُ سوائلُ الأسيدِ الجديدةُ من الصهاريجِ الضخمة
تنزلُ إليَّ على حبالٍ - كلها من خلطةٍ لم أتعلمها من أحدٍ وتعلمتها من فرانك أوميرا
قبلَ أن يتردد إلى الباراتِ في «فيرنون هاي واي» حيثُ سيشربُ حتى الموت.
قِدْرٌ ضخمٌ من الهيدروليكِ يتصاعدُ دخانهُ
من فمٍ زجاجيٍّ عملاقٍ، قليلٌ من سائل «النيتراتِ» الشاحبِ يشكِّلُ فقاعات
زيت الكبريتِ يهمدُ، معادنُ من أجل المُحلّياتِ، سوائلُ تنظيفٍ للأملاح
أنتظرُ كل هذا قبل أن أعرفَ أن الخليطَ الحارَّ قد أصبحَ جاهزاً
ثم أصعدُ، ببطءٍ أشدّ، يعودُ المغامرُ
إلى الأضواء العاديةِ التي تومضُ
لمجموعة عمالِ الليل في منطقتي «فاينبيرغ» و«برزلين»
حيثُ شركةُ السِباكةِ ومعمل السيارات
ومعي رسالةٌ من مملكةِ النار
شيءٌ غريبٌ
أنْ لا أحدَ رحَّبَ بعودتي، وأني وقفتُ بكاملِ عتادي
بينما مدرارُ المطرِ الباردِ أغرقني ماءً وآثارُ الدخانِ
صارتْ بركاً على قدميَّ كحليبٍ كثيرٍ وثلجٍ يذوب
ثم أخلعُ عني الملابسَ لأبقى في بنطالِ وقميصِ العمل فحسب،
في حذائي الأسود وجواربي القطنية البيضاء، لأستعيدَ لقبي، أعتصمُ ساعتي الـ«بيلوفا»،
أعيدُ خاتم زواجي إلى ما كان عليهِ، ثم بماءِ صنبورٍ
أغسلُ فمي من المرارةِ بقدرِ المستطاع لخمس عشرةَ دقيقةً أو أكثر
سأجلسُ بهدوءٍ على حافة العالمِ حيثُ لمَّعتِ النسوةُ الأنابيبَ والخزائن
مُعَلَّقاً كزينة الميلادِ على الرفوف
مشدوداً بتمهلٍّ إلى الصهاريجِ التي طهوتها.
بعد قليلِ سيحينُ موعدُ السيجارةِ الثانية، ممسوكةً في يدٍ ترتجفُ،
بينما أسحبُ موجةَ الحرارةِ البشعةِ لأقتلَ اللهبَ،
وجبةُ غداءٍ من سمك السلامي والجبنةِ السويسرية
على خبزِ أسمر من صنعِ «العمةِ تسيبي»،
وسيجارةٌ ثالثةٌ لتقتلَ طعمَ كلِّ تلكَ السجائرِ السابقة
ثم أستيقظُ مرةً أخرى وأرتدي ثيابَ عملي الموحدة
مرةً أخرى في نفسِ الليلةِ، يقويني أن أعرفَ
أني بهبوطي وصعودي
من العالم الآخرِ بسعادةٍ مرةَّ كل ثماني ساعاتٍ
هو نصفُ ما عليَّ أن أقومَ بهِ لأكونَ رأساً على علمٍ
بين النساءِ والرجالِ.


الاقتراب أكثر

خُذْ هذه المرأة الهادئةَ مثلاً، صارَ لها واقفةً
ثلاث ساعاتٍ أمام آلةِ التلميعِ، وينقصها عشرونَ دقيقةً
قبلَ أن تبدأ استراحةُ الغداءِ. هل هي امرأةٌ؟
فكِّرْ بساعديها وهما تضغطانِ على أنبوبِ النحاسِ الطويلِ
فوقَ مَصَدِّ السيارةِ، ساعدان معروقان حتى العضلة ثلاثية الرأسِ،
تبزغُ بوضوحٍ.
فكّر بطبقةِ الغبارِ الداكن الناعمةِ
فوق الشفةِ العليا، وحبُيْبات العَرَقِ التي تنسابُ
من المنديلِ الأحمرِ عبرَ الحاجِبِ وتُمْسَحُ بعيداً
بعصبةِ معصمٍ يكسوها السوادُ وبحركةٍ غريبةٍ واحدةٍ
قد يقولُ طفلٌ: لا! لا! عليكَ أن تقتربَ بنفسكَ،
اخلعْ ربطةَ العنقِ والسترةَ وارتدِ ثوبَ العملِ الأسود،
كن مستعداً لتعمل لساعاتٍ وساعاتٍ طويلةٍ
ناقلاً الأواني المعدنية من أماكنها، مُثنياً في بدايةِ الأمرِ
ركبتيكَ من أجلِ شراءِ شيءِ ما،
ثم ترفعُ وأنتَ تشهقُ كلمةَ المجاملةِ الأولى بينكما،
ثم عليكَ أن تجلبَ أواني الحديد البشعِ الجديدةَ،
عليكَ أن تطعمها كما يقولون هنا في لغةِ العمل
أريدكَ أن تعرف أن لهذا المكانِ لغتهُ الخاصة،
وإن حالفكَ الحظُ وانقطعَ التيارُ الكهربائيُ، ستتوقفُ العجلةُ
عن الدورانِ وسترى فجأةً أنها لم تكن مجردّ شيءٍ
لكنها عدةُ أسلاكٍ مدببةٍ تصنعُ من دورانها
دائرةً محكمةً، فإنها ستستديرُ نحوكَ وتقولُ، «لماذا؟»،
ولن تكون تلك «لماذا» قديمة كتلكَ الموجودة في جملة:
لماذا عليَّ أن أعملَ خمس ليالٍ في الأسبوعِ الواحد؟
فقط «لماذا؟» وحتى إن حدثَ بأعجوبةٍ وعرفتَ هذا، فلن تجرؤ على القول لأنكَ تخافُ لغتها، اللغةَ التي تمتلكها أنتَ الآنَ
بينما تضعُ هي أصابعَ يدها الخمسةِ المتسخة
على كمِّ قميصكَ الأبيضِ لتجعلَ منكَ ما هو أنتَ وليس غيركَ،
مرةً وإلى الأبدْ.