... «إلى نادية»
عندما خرجنا كانت تمطر. في الشتاء تصير الشوارع خالية. الناس ينسحبون إلى البيوت. لم نكن قد رأينا بعضنا منذ أزيد من سنتين. لكننا كنا نتكلم على التلفون من فترة لأخرى. غالباً من دون سبب. تحكي وأحكي حتى نتعب فننام. قالت لي إنها ستزور معرضاً للمجوهرات التقليدية، وعرضت عليّ مرافقتها. «ناخدو الترام؟»، «أوكي»، «أوكي».

ليلة الموعد تكلمنا لساعة على الهاتف، كنّا قد بدأنا بقراءة مذكرات جنرال سابق، سوياً، كنت متأخراً في القراءة ولكننا كنّا نناقش الصفحات الاولى، وتاريخ «الكاتب». لم أكن قارئاً كبيراً! ولم أكن أحب التحدث عن الكتب القليلة التي قرأتها خاصة أني كنت قد قرأتها لسببين: تحت تأثير حالة كآبة ما... أو بسبب فتاة ما. لكن معها، ورغم أنها تقرأ كثيراً، إلا أنها كانت تسمع رأيي وتناقشني، لم تكن تحكم على الكلام من أوله.
كانت تحمل تذكرتين في يدها. سألتها اذا ما كانت قد ختمت التذاكر، فهزّت رأسها نافية : «علاش؟»، لم تكن تعرف لماذا. قالت إنها لم تركب الترام الا مرات قليلة منذ أن افتتحوه. أول مرة كانت معي... منذ ثلاث سنوات. قلت لها وأنا أُدخلهما في الآلة، أن التذكرة لا تحمل التاريخ والوقت، فقط رقم الطباعة. بخلاف الرقم، فكل التذاكر تتشابه، وغير مستهلكة.
ظلّت صامتة لمدة. حتى ركبنا الترام، قالت لي بتعجب دائماً ما يتملكها عندما تندم: «ما كنتش نعرف»! كل تذاكرها غير مستهلكة. لم تكن ترمي التذاكر، البعض تعلّم بها الكتب... وتلك التي لها ذكرى مميزة، تكتب عليها بضع كلمات وتخفيها. كانت تعمل بدل الآلة في ترقيم الأيام «العزيزة» في حياتها: «تعرف أول مرة ركبنا الترام كيف - كيف، لا زلت أحتفظ بالتذاكر». لاحقاً ستقول لي على التلفون أنها لا تذكر أننا ختمنا التذاكر يومها. لكن عندما دقّقت النظر في التذاكر، صارت تضحك، كان التاريخ والوقت خاطئين، يشيران الى يوم وساعة لن يأتيا قبل سنة. هدأ ضحكها قبل أن تقول: «الماشينة وكدّابة».
قبل أن نخرج في ذلك الموعد الأول ونركب الترام لأول مرة، كنت قد مررت بمرحلة كآبة، لم أقرأ فيها مذكرات الجنرال السابق لأنه كان لا يزال جنرالاً، لكني كنت أقرأ في كتاب ضخم، عن رحلة أحدهم لكينيا. كانت في الكتاب رسومات للكاتب، عن فنادق في وسط الغابة. فنادق صغيرة يضعون الأكل على اسطحها لتأكله الزرافات، أو تدخل رؤوسها من النوافذ. كنت سيليباير*. بلا حب. تعبت يدي من الاستمناء. ورئتاي من الدخان. كنّا قد غيّرنا النوافذ الى نوافذ ألمنيوم. في الصباح، من سريري كنت أرى الربوة البيضاء، أضواء قليلة تلمع في تلك الساعة تثبّت الضباب، البحر رمادي. ومن خلف زجاج النافذة، يبدو كل شيء أسود. في آخر الكتاب، كانت هناك صور، للسافانا، بساط أخضر وقمة كليمنجارو كجدار بعده الأبدية. كنت أرى المدينة، قمة كليمنجارو، وأنا أدخن والصبح يفيق، أغطي رأسي وأنام. كنت أركب الحافلة الى وسط المدينة، مع أناس قادمين من الضواحي. التذاكر كانت بلا تاريخ يومها، لم يكلفوا أنفسهم بختمها. لم أكن أشتري تذكرة، كنت أحتفظ بواحدة أُظهرها إذا طلبها. كل التذاكر تتشابه، كالأيام في تلك الفترة. رقم الطباعة يكفي. لا حاجة للتاريخ. كنّا نمّر بجانب البحر. الواجهة البحرية التي تسبق المدينة، يومها كانت مهملة، بضعة كيلومترات بين «قصر المعارض» والميناء في مدخل المدينة، شاطئ قذر صخري، أشخاص يشربون بين الصخور، أو يمسكون بصنارة. كنت أراقب البحر والسُفن الطافية في وسطه، تنتظر دورها لدخول الميناء. الناس داخل الحافلة كانوا نائمين، لا يرون البحر. يمرون به فقط. كنت أرى أشخاصاً غريبين في الحافلة. يومها، لم تكن الهواتف المحمولة شائعة، وفي إحدى المرّات وبينما كنت واقفاً وسط الحافلة، رأيت أحدهم يخرج محمولاً من جيبه، فكّكه في حجره ثم رتّب الأجزاء على فخذيه كمن يشرح ما يفعل، ثم أعاد تركيبه بجدية وتركيز، وأعاده الى جيبه. كل هذا والنّاس تراقب في صمت... بعضهم كان يرى محمولاً لأول مرة...
في ليلة حادث القطار الأخير، اتصلتْ بي. لم يكن أحد ممن تعرفهم – ولا ممن أعرفهم - على ذلك القطار. قالت لي إن المصائب قد تصيب أشخاصاً دون غيرهم. البقية متفرجون يُحصون العِبر فقط. لا خوف عليهم الى حين. قالت لي إنّ نصف ركّاب القطار كانوا بلا تذاكر... كالعادة. «التذكرة ضمانة في حال حدوث حادث احتفظوا بتذاكركم». سألتها عن تاريخ التذاكر، هل كانت بتاريخ يوم الحادث أم سنة من بعد. ضحكت وقالت لي إن تذاكر القطار وقتها مضبوط، لكن ربما حصل خلل ما: «تعرف كاين اللي دخلوا غيبوبة». ربما سيفيقون بعد عام أو أكثر، حسب تاريخ التذكرة الخاطئ، القطار أوصلهم الى الزمان الصحيح.

سليباير: دمج كلمة célibat يعني عزوبية بالفرنسية، مع بائر من بور.
* كاتب جزائري