عندما يتوقف هطول المطر، تصبح زيارة برك المياه الموجودة في معظم القرى الجنوبية الحدودية أمراً لا بدّ منه. «لا داعي لسماع أخبار الطقس لمعرفة نسبة هطول الأمطار، ما يهمنا هو كمية المياه التي جمعتها البرك الزراعية»، يقول المزارع حسن عطوي ابن بلدة مركبا، الذي يعتمد في زراعته على مياه بركة البلدة الكبيرة التي تعدّ من أقدم برك جبل عامل، والتي تتسّع لأربعة وعشرين ألف متر مكعب.
وجاءت حصيلة الزيارة إيجابية بالنسبة إلى عطوي «فالبركة امتلأت بالمياه بعكس السنة الماضية، عندما اضطر المزارعون إلى الاستغناء عن زراعة التبغ والخضار المربحة وعمدوا إلى زراعة أراضيهم بالحبوب». ذلك أن نسب المياه تتحكم في اختيار المزروعات التي سيعتمد عليها المزارعون في القرى.
ويوضح المؤرخ مصطفى بزي أن هذه البرك العامة «تسهم مساهمة فعالة في تحسين الزراعة في المنطقة، خصوصاً بعد التوسّع الذي شهدته زراعة التبغ التي تحتاج الى المياه الكثيرة، أثناء زراعة الشتول».
وتبلغ المساحة التي تغطيها برك المنطقة 96 كلم، غير أن ما تستوعبه من مياه لا يكفي لريّ كلّ الأراضي، إذ تشير دراسة استكشافية وضعتها دار الهندسة للتصميم والاستشارات الفنية أنه «نظرياً يمكن لهذه البرك ريّ 7 آلاف دونم، لكن واقعياً، ونظراً الى تفاوت معدل هطول الأمطار، لا يمكن ريّ أكثر من 5400 دونم».
وعلى الرغم من نهوض المنطقة العمراني، ما زالت هذه البرك من المعالم الأساسية للقرى والبلدات. ففي بلدة شقرا أصبحت بركتها محاطة بالمحال التجارية الكبيرة، وهي مكان تجمّع شبان البلدة الرئيسي حيث جلسات النارجيلة وشرب القهوة، ويستخدمها شباب البلدة صيفاً للسباحة وتسيير المراكب الصغيرة، وذلك عندما تمتلئ شتاء بالمياه كما حصل هذا العام. لكنّ اللاّفت في بلدات عيترون وحولا والطيبة هو ردم البرك الرئيسية الثلاث فيها بسبب قربها من البيوت وانبعاث الروائح الكريهة منها صيفاً. وقد أثار ردمها انزعاج كبار السنّ الذين رأوا في ذلك «ردماً للتراث والذاكرة».

نظرياً يمكن للبرك ريّ 7 آلاف دونم لكنها تروي 5400 دونم


بلدية عيترون عادت وحفرت بركة كبيرة بديلة في الجهة الشمالية للبلدة، كون أغلب أبناء البلدة يعتمدون على الزراعة. أما بلدية الطيبة فحوّلت مكان البركة القديمة، التي كان عمرها مئتي عام، إلى حديقة عامة. خصوصاً مع عدم وجود حاجة ملّحة لها، بما أن معظم أبنائها استغنوا عن خدماتها المتعلقة بريّ الأراضي الزراعية وسقاية الحيوانات الداجنة. بالعكس، منهم من رحّب بقرار الردم الذي يريحهم من الروائح الكريهة التي تتسرّب منها «ونقيق الضفادع المزعج» كما يقول علي رسلان أحد أبناء البلدة. لكن كبار السنّ في البلدة لم ينسوا «فضل البركة عليهم وعلى أبنائهم في مواسم الزراعة التي كانت مصدر رزقهم الوحيد». ويتذكّر محمد صولي أيام الصيف الحارة حيث «كانت البركة المكان الوحيد للاستجمام والسباحة، فهي التي كانت ملجأ الشباب لتعلّم فنون السباحة، والمكان الذي يتواعد فيه العشّاق».
أمّا في بلدة حولا فقد تحوّل مكان البركة القديمة الى موقف سيارات لروّاد حسينية البلدة الملاصقة للمكان، في حين لجأت البلدية الى توسيع وتجميل البرك الزراعية الأخرى في البلدة. وفي بلدة رميش، لا تزال بركتا البلدة العماد الأساسي للأهالي الذين يعتمدون على زراعة التبغ، فيقول المزارع طوني الحاج (45 سنة) «بركتا البلدة هما سرّ صمود المزارعين هنا، فأبناء البلدة المقيمون يعتمدون على مياهها في معيشتهم لريّ أراضيهم الزراعية».
ويقول المزارع جوزيف الحاج «جميع الأهالي هنا من المزارعين، وعند توقّف هطول الأمطار يقصدون بركتيّ البلدة الرئيسيتين لمعرفة نسبة المياه الهاطلة، للاطمئنان على الموسم الزراعي المقبل، ففي الأعوام الماضية عانوا كثيراً من شحّ المياه، وعدم امتلاء البرك ما اضطرّهم الى شراء المياه من أصحاب الآبار الارتوازية لريّ مزروعاتهم وهذا مكلف جدّاً»، ويشير الى أن «أبناء القرى تطيب لهم الكزدورة عصر كلّ يوم، بعد توقّف المطر، لقصد برك المياه، والاستمتاع بمنظرها الجميل بعد امتلائها بالمياه، فتتحوّل مقصداً للصبية والأطفال الذين يجدون فيها مصدراً للتسلية وقضاء الوقت الممتع».
وفي هذا السياق يقول شادي كلاّس: «البرك الزارعية هي سرّ صمود المزارعين هنا، فأبناء بلدتي رميش المقيمون يعتمدون على هاتين البركتين في معيشتهم لريّ أراضيهم الزراعية، وهما قديمتان جداً، كأغلب برك البلدات الأخرى، ولا نعرف تاريخ بنائهما، وهما محاطتان بالحجر الصخري وأرضهما ترابية لا تسرّب الماء الى باطن الأرض، عكس البرك الحديثة التي جهزّت بعوازل بلاستيكية لمنع تسرّب المياه».

البرك الزارعية في القرى هي سرّ صمود المزارعين في المنطقة

لعلّ برك المياه، التي كانت من أهمّ معالم القرى والبلدات الجنوبية، هي أوّل ما لفت أنظار المجالس البلدية المستجدّة، منذ التسعينيات، وبعد التحرير في القرى الحدودية. فكانت عرضة لمشاريعهم المتنوّعة، بين التجميل، وإعادة التأهيل، أو حتى القضاء عليها، واستغلال مكانها لإنشاء الساحات والحدائق العامّة. فبرك المياه هذه كانت تعدّ الشريان الحيوي للأهالي، بعدما كانوا يستخدمون مياهها لريّ الأراضي التي يزرعونها، اضافة الى جلي الأواني المنزلية على ضفافها، وسقاية حيواناتهم الدّاجنة.
لم تبتكر المجالس البلدية حلولاً للحفاظ على تلك البرك ومصادر مياهها، وتركها معالم سياحية تؤرشف تاريخ تلك القرى القديمة بقدم لبنان. لكنّها دون شكّ حاولت ادخال ما هو جديد لعصرنة تلك البرك، كي تواكب نمط البناء وحاجة الأهالي المستجدّة. فبركة قرية تولين الصغيرة، والتي لا يزال أبناؤها يعملون بكثرة في زراعة التبغ، استغلّت صيفاً، أي بعد جفافها، لتصبح ملعباً رياضياً للأطفال وهواة كرة القدم. أما البرك البعيدة عن الأماكن السكنية فقد اختفت معالمها، بعدما كانت مخصّصة لشرب المواشي والخيل، وكانت مقصد الأهالي، يغسلون فيها ثيابهم وأوعيتهم، وفي أحيان أخرى يسبحون فيها، ويروون الزرع أيضاً. ويذكر كبار السن في بنت جبيل أن البركة القديمة المعروفة بـ«الحوّارة»، كانت مصدر الأهالي للشرب، وتزيد مساحتها على الألفي متر مربع، إلا أنها ردمت وبني عليها لاحقاً مركز تجاري بداخله اليوم مركز بلدية بنت جبيل.