لا تشبه «تاراتاتا جنرال»، هدوء الرابية. لافتة «ممنوع التزمير لراحة السكان»، المرتفعة عند كل مفترق، لا تشمل ميشال عون، ساكن التلة الراقية منذ أكثر من عشر سنوات. لم يجلب زحمة زوار وكاميرات إليها فحسب، بل أدخلها في المخططات الاستراتيجية للخصوم والحلفاء المحليين والدوليين.
ثلاثة حواجز للجيش اللبناني تتوالى في الطريق إلى منزل الجنرال. تنتشر إرشادات للمقيمين والزوار تطلب بلطف اتباع التدابير الأمنية التي تفرضها حماية الجار المستهدف. عند الحاجز الأخير على مفترق المنزل، سارية واحدة ترفع العلم اللبناني وراية الجيش. الأشجار الوارفة تغطي جانبي الطريق. إجراءات الحماية تخفي معالم البيت كله. شوادر ارتفعت لتغطي الأسوار المحيطة حتى السطح. قبل الولوج إلى فناء الدار، يستوقفك المنبر البرتقالي. هنا، يخرج الجنرال من بيته ليتوجه إلى الرأي العام. هنا يضرب عرض النظام القائم. في الركن الضيق من الفناء، يقاتل للتغيير والإصلاح. فيما توحي السنوات الثمانون لدى غيره باستخدام الركن في جلسة دافئة مع زوجته والأولاد والأحفاد. لكن صاحب «يا شعب لبنان العظيم»، جعل قضايا الناس والسياسة المدخل إلى بيته. خلف المنبر الذي «بيخرب الدني»، تتوالى «مساكب» الجنرال. أخيراً، أنجز غرس نصوب ورد جديدة و»شحّل» الشجرات. يحفظ المواسم الزراعية ومواعيد الزراعة والفلاحة، كما يحفظ الخلطة اللبنانية. عندما كان طفلاً، كان يساعد والده في البستان المحيط بمنزل الطفولة في الشياح.
بابتسامة يستقبلنا عند الباب. يخرج اليدين من جيبيه ويصافحنا بحرارة كأن «المعرفة سابقة». يدعونا إلى الجلوس في صالون الاستقبال الذي حفظت الكاميرات كنباته ولوحات الجدران. وحدها مزهرية الورد تتغير. حينها، توسطت الطاولة باقة من الجوري والقرنفل البرتقالي الزاهي، تتسلل بينها زهور «رينونكول» الفرنسية الصفراء. «سيدة تهتم بتنسيق الزهور على ذوقها»، يقول. أما ذوقه هو فمنتشر في كل زاوية. الأوركيد الأبيض أكثر أنواع الزهر التي يهواها.
في الدردشة الأولى، يبدي اهتماماً خاصاً بأحدنا الذي يقيم في الجنوب. يتنهّد عميقاً كأنه يستعيد أنفاسه. لم يولد في المكنونية، مسقط رأس والده في جزين، بل نزح الجنوب إليه في الضاحية. بينه وبين الجنوبيين صفاء ونقاء. لا يشعر ولو للحظة بأنه خانهم. هو مقاوم أساساً. لكن البعد كان جفاء وسيئ الفهم أحياناً. يتطرق عون إلى أزمة السير التي تسببها «فوضى السواقة» لدى اللبنانيين. «من زمان بلبنان ما بسوق» يجزم. أعصابه لا تتحمل. أزمة السير ليست أسوأ من أزمة احترام المواعيد. معاناة يعيشها رجل أمضى 35 سنة في الخدمة العسكرية الفعلية. تتكدس همومه أكواماً من حوله، سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً... لكنه لا ييأس من التغيير. جوابه عن سؤال: «شو بعد بدك؟ّ»، كان أطول الأجوبة وأكثرها إصراراً. يرتبك الناس بسنواته الثمانين، أكثر منه. أما هو، فلا يتعاطى مع تاريخه على أنه من مقتنيات الماضي. إنه مقاتل يكاد يجهّز سلاحه.
طوال الحديث، لا تفلت الابتسامة والهدوء منه. سريعاً يتبدد الانطباع بأنه عصبي. يذكّرنا مراراً: «اسألوا شو ما بدكن، بدون أي سقف وأنا مستعد جاوب عن أي سؤال». ربما اكتسب خبرة كافية في التعاطي المدني. لم يعد السؤال الذي لا يعجبه، يعتبره «استفزازاً وحرتقة». لا ينزلق للتعبير عن رأيه الشخصي بخصومه السياسيين. صدره توسّع حتى ثمانين حولاً ونبرته سكنت حتى الحنان. سعة الصدر شملت حتى غض الطرف عن التدخين. يستأذن أحدنا لتناول سيجارة على الشرفة. لا يعلّق المدخن الذي أقلع عن عادته قبل ثلاثين عاماً.
الحديقة الخضراء تحاكي بساطة البيت. طبقتان توصل الأولى نزولاً نحو الطبقة السفلية. السلالم كثيرة لكنها غير عصية على الكهل الشاب. تبدو الطبقة السفلية البيت الفعلي للجنرال وأسرته. منها يفتح الباب على حديقته التي يتركها «على طبيعتها برية» من دون إضافات هندسية وإكسسوارات. الكلب الوفي ينتظر وقت الرعاية من الجنرال. هنا يمضي أجمل ساعاته. يوم الأحد المقدس لزوجته ناديا الشامي وبناته ميراي وشانتال وكلودين وأولادهن. يسعد عندما يضطر ذووهم لتركهم عند جدهم الجنرال.
أنهى وقت اللقاء الذي تمدد قسراً لكي لا يتأخر على الصديق الذي ينتظر في الصالون الثاني. الالتزام بتطبيق الشعارات، ومنها دقة المواعيد، يشمل الجميع حتى المقربين. يودعنا عند الباب. يتمنى أن يكون قد لبّى طموحنا وكانت أجوبته على قدر أمنياتنا. يذكّرنا مراراً، إن احتجنا إلى مادة إضافية أو للاستفسار عن شيء ما، فهو جاهز لذلك.