بيروت تعيش أزمة الهويات الزمنية. لا تعرف إلى أي عصرٍ تنتمي ولا سيما أن فترة ترميم جسدها المهشّم تطول يوماً بعد يوم. اختلطت عليها التسميات والمعاني التي ألصقت بها خلسةً وأحياناً عنوةً. إنها مدينة لا تشبه نفسها، أو فلنقل، ما كانت عليه، قبل 2005. الرئيس الذي اغتيل في 13 شباط، من ذلك العام المشؤوم، يرتبط بذاكرة اللبنانيين حصراً، بشركة «سوليدير» التي خلعت بيروت عن ذاكرتها، ونفضت عنها كل ما يعيدها إلى الماضي. وهذه ليست نقطة عابرة.
إنها مسألة أساسيّة، لا تلغي «مظلوميّة» القتيل، أو تضمر دعوةً لرفض العدالة. لكننا نتحدث عن مدينة، وثمة مناطق وشوارع تبدّلت خلال السنوات «الحريريّة»، واللافت أنها تبدلت بعد الحقبة الحريريّة أيضاً.

الطبقات التي فوق

يوم رافق الحريري صديقه الفرنسي جاك شيراك إلى وسط بيروت، في جولة بوسط البلد، دُهش الرئيس الفرنسي (المعروف عنه كثرة الاندهاش) من تحوّل بيروت الى ما غدت عليه ــ كما هي الآن. ساحة النجمة الجديدة. الطرقات المصممة بعناية فائقة، بحيث لا ترى بلاطةً لا تشبه أخرى، وألوان الرخام يلائم الأرصفة. العمارة الكولونياليّة. الأضواء الصفراء على أعمدتها «تشعشع». روائح العطور الفخمة والتي يصل عبقها إلى مسافات بعيدة تنعش أنوف المتسولين للقدوم وممارسة عملهم. المحال التجارية الفخمة التي يبلغ ثمن كل قطعة معروضة بداخله 3 أضعاف مواطن عادي. أما المقاهي والمطاعم فصممّت على مقاس «الطبقات التي فوق» والسائحين، بديكورات رفيعة تناسب ذوق روّادها. كل شيء على ما يرام. لكن... منين أجيب ناس؟
«الوسط التجاري» اليوم مغلق بسواتر حديدية. رجال الأمن على معظم المداخل يحرسون مدينة الأشباح. عدد المطاعم والمقاهي تقلّص الى عدد لا يتخطى أصابع اليد الواحدة. أما المحال التجارية فقد انتهت، منهم من أفلس وأغلق بعد سلسلة الأحداث والتحولات التي طرأت على المنطقة؛ بدءاً من اغتيال الحريري مروراً بالاعتصامات والانقسامات وتحويل الوسط إلى مخيم ضخم لفريقين شباطيين وآذاريين وأياريين، وصولاً إلى حرب تموز وما بعدها. المدينة في الواقع لم تنهض من الحرب الأولى، لذلك كان مفهوماً أن تنام في العسل خلال الحرب الثانية. وفي هذه النقطة، يشير المهندس مازن حيدر، إلى أنه وخلال عملية إعمار وسط بيروت، «أُخذت لغة الحرب واستخدمت في العمران، حيث كان وسط بيروت بمثابة جزيرة محمية ومعزولة». واتبعت هذه المنهجية أيضاً في بناء المجمعات التجارية حيث شقّت طرقات في داخل المنطقة، بهدف الاستثمار والربح أكثر من خلال المواقف. أما الرؤية التجارية المتطرفة، فتظهر بوضوح «من خلال ترميم محيط ساحة النجمة بطريقة دقيقة ومبالغ فيها ووفق الأسلوب المعماري الفرنسي». وهذا ما نراه اليوم إذ عزلت «سوليدير» ساحة النجمة والوسط التجاري عن المناطق المحيطة، وعن الأحياء الشعبية، وصارت المنطقة «الراقية» تخبّئ خلفها شوارع قديمة بذاكرة الحرب الأولى، ليصير «الوسط» نفسه «محاولة ذاكرة» للحرب الباردة الثانية.

خارج الربيع العربي

شهدت الساحات في لبنان منذ العهد العثماني وحتى اليوم، سلسلة اعتصامات، وسجلت فيها مواقف مطلبية. اللبنانيّون ليسوا طارئين على الساحات. لكن أخيراً، لم تعد الساحة مكان تلاقٍ سوسيولوجي أو مطلبي، بل صارت موقعاً للحشد التعبوي السياسوي. في لبنان ساحات عدّة، الا أن الحشود التي سكنت هذه الساحات لم تتمكن من تغيير الأنظمة في لبنان أو تحقيق مطالبها أو حتى مواكبة الأحداث العربية وتغيير الأنظمة خلال موسم «الربيع العربي». بدا لبنان معزولاً عن كل ذلك تماماً، وإن قيل إن «ساحة الشهداء» 2005، هي ساحة سابقة لساحات «الربيع العربي»، فإن ذلك يضمر كماً كبيراً من التسطيح. غير أن ذلك لا يلغي، أن الحشود التي دلفت إلى الساحات، عقب اغتيال الشهيد الحريري عام 2005، مع النظام أو ضدّه، لفتت الأنظار.
في الواقع، ساحة الشهداء تسمح باستقبال عدد كبير من المتظاهرين نظراً لمساحتها الكبيرة. إلا أن ساحة رياض الصلح والتي تكمن أهميتها بالقرب من السراي الحكومي ومجلس النواب مساحتها ضيقة نظراً لإقفال جوانبها بالمباني والمشاريع والاستثمارات وضيق الطرقات. هل هذا «مقصود»؟ أي أن لا يستطيع الناس «التجمهر» قرب البرلمان والسراي؟ ينفي الباحث الاجتماعي أحمد البعلبكي ذلك، بحيث لم يأخد البناء في الحسبان أحوال اليوم السياسية «إذ تغيب هندسة الساحات عن الدولة والتنظيم المدني عن شركة سوليدير ولم تفكر ببناء ميدان واسع». برأي بعلبكي، الشركة اليوم لا تعطي أهميتها لغير العقار، أي لا يهمّها اللقاء الجماهيري. وعلى سبيل المثال عندما أعيد تأهيل حديقة الصنائع، «لو لم يموّل المشروع من القطاع الخاص لما اهتمت الدولة به». ويقول بعلبكي إن «سوليدير فصلت بيروت عن المناطق المحيطة بها، حيث ورثت خطوط التماس عن الحرب الأهلية واستعملتها عقارياً ومناطقيّاً». وربما، هذا، ما يفسّر، بشكل أو بآخر، إمكان نقل الشعارات من «Outdoor» في «الشهداء» و«رياض الصلح»، إلى «indoor»... في «البيال» أو «مجمع سيد الشهداء»!