شكلت العلمانيّة في العالم العربي مادة سجالية لدى النخب الفكرية ووضعت حولها مؤلفات كثيرة. بات المصطلح في العقود الأخيرة يُثير حساسية متزايدة مع صعود الأصوليات الإسلامية وجماعات العنف. هكذا أصبح العلمانيّون العرب، على ندرتهم، في موقع التهمة ومعاداة الدين وخبت أصواتهم إثر استفحال الجنون الديني. في «العلمانيّة بين التحليل والتحريم في لبنان والعالم العربي» (الدار العربية للعلوم ناشرون)، يحاول باسل عبدالله الإحاطة بأبرز القضايا المرتبطة بالعلمانيّة في ثلاثين سؤالاً وجواباً. ليست الدراسة مادة متخصصة، إنما تقدم للقارئ العادي طريقة سهلة لفهم ما تطرحه على المستويين السياسي والحياتي. يعمل صاحب «الزواج المدني في لبنان: الواقع والآفاق» على دراسة العلمانيّة، تعريفاً وتاريخاً وتأسيساً، ساعياً إلى مقاربة المصطلح من سياقات عدة: الطائفية، والإسلام، والإيمان الديني، وحرية التعبير، والإلحاد، وحقوق الإنسان، والمواطنية، والعقلانية، والعقائدية، والفكر الإنساني.
ما هي العلمانيّة وما هو تعريفها؟ يعود الكاتب إلى التعريفات التي صاغها عدد من فلاسفة الغرب والكتّاب العرب بينهم البريطاني جورج جاكوب هوليوك، وجون لوك، وفرديناند بويسون، وجون ميلتون ينغر، وعزيز العظمة، وعبد السلام سيد أحمد، ووحيد عبد المجيد، وصادق جلال العظم، ومحمد عابد الجابري، وعبد الوهاب المسيري، وغريغوار حداد.
يعرض تاريخ المصطلح بالرجوع إلى أصله ومصدره وأسباب استعماله. ارتبطت جذور الكلمة _ كما يبين الكاتب_ بثلاثة أصول مُفترضة: الأول مُشتق من كلمة (Laïcité) أو (Laïcisme) في اللغة الفرنسية، وهاتين الكلمتين من أصل يوناني (Laos) وتعود جذورهما إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وتوسعت الكلمة في القرن السابع عشر بعد الثورة الفرنسية، وكان أول ظهور لمصطلح (Laïcité) في المعجم الفرنسي عام 1871 وترسخ بعد صدور قانون فصل الدين عن الدولة في فرنسا عام 1905. الثاني مُشتق من كلمة (Secularism) الإنكليزية والفرنسية وهما من أصل لاتيني (Saeculum) ومن معانيها: الدهر، والعالم، والزمان، والدنيا. واستعملت الكلمة بالعربية بفتح العين مُستمدة من كلمة «عالم». الثالث، مصدره كلمة (Scientism) أي عِلم ما يعني أن مصطلح العلمانيّة يجب أن يُلفظ بكسر العين.

لم يتحمس محمد عابد الجابري لها ضمن مشروعه النهضوي العربي

يحيلنا الكاتب على أوائل الذين أسسوا مفهوم العلمانيّة في العالم. ترجع جذوره إلى القرن الثالث عشر في أوروبا على يد المفكر الإيطالي مارسليو دي بادوفا، وتبعه الفيلسوف وعالم اللاهوت الإنكليزي وليام الأوكامي وتوسع المفهوم ضمن الأفكار والآراء التي صاغها فلاسفة الثورة الفرنسية. يعتبر المعلم والأديب بطرس البستاني أول من «نادى باستقلال علاقة الدولة بمواطنيها عن أي علاقة للمواطن بدينه»، وتبعه إبراهيم اليازجي وشبلي الشميّل وغيرهم.
يستحضر صاحب «صدى المجهول» تاريخ العلمانية في أوروبا وعلاقتها بالديانة المسيحية. تشكل الفصل بين السلطة السياسية والكنيسة بعد صراع طويل ومواجهات واصدار التشريعات والقوانين. يُعد «مرسوم نانت» (L’Edit de Nantes) الصادر عام 1598 أول اعتراف رسمي بالتسامح الديني تمّ بموجبه تكريس الحرية الدينية والمساواة أمام القانون رغم اختلاف الدين.
في العالم العربي والإسلامي، أثارت العلمانيّة حفيظة المتطرفين دينياً إذ نظروا إليها كمفهوم إلحادي، إما عن جهل بمضمون المصطلح، وإما نتيجة الرفض القطعي له على قاعدة الرقابة الدينية للسياسة المدنية. التوجس من العلمانية دفع العديد من الكتّاب العرب إلى التحايل عليها أو رفضها أو السعي إلى استبدالها. يسجل على المفكر المغربي محمد عابد الجابري سجاله ونقاشه لمفهوم العلمانية وعدم تحمسه لها ضمن مشروعه النهضوي العربي. اعتبر أن «مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات والحاجة إلى ممارسة العقلانية للسياسة هي حاجات موضوعية فعلاً، إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها بل ومشروعيتها عندما يُعبر عنها بشعار ملتبس كشعار العلمانية. وفي رأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية». (حوار المشرق والمغرب: نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي، حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990، ص 39).
يخلص الكاتب إلى أن العلمانية تؤمن بحرية النظرة الإنسانية للوجود والله وحرية أن يكون الإنسان مؤمناً أو لا أدْرياً أو ملحداً. تسمح الدولة العلمانية بكل تعبير حر أو رأي أو وجهة نظر، ولكن هذا السماح يبقى ضمن حدود عدم السخرية أو الاستهزاء بأي مبدأ من المبادئ أكانت دينية أو غير دينية. يعرج على صلاحيات رجال الدين في الدولة العلمانية وعلاقتها بحقوق الإنسان والفكر الإنساني والمواطنية، متناولاً معوقات تأسيسها في لبنان والعالم العربي. يختتم الدراسة بقراءة لتجربة «حراك إسقاط النظام الطائفي في لبنان» عام 2011 الذي تزامن مع اندلاع الحركات الاحتجاجية العربية.
ليست العلمانية خياراً إيديولوجياً، إنما هي مسار تراكمي يفرضه التطور التاريخي. يتحدث ناصيف نصار في كتابه «الإشارات والمسالك» عن مسارين: «المجتمعات المتطورة نحو العلمانية»، و«المجتمعات المتطورة في العلمانية». وقد رأى أن «تاريخ العلمانية عند العرب في العصر الحديث مرّ بمراحل صعود ومراحل هبوط، ولم تكن العلمانية في يوم من الأيام قضية مركزية فاعلة في الثقافة والاجتماع والسياسة. لقد جرى تطور نحو العلمانية في الحقبة التي سبقت حقبة الثورات التي ظهرت في أواسط القرن الماضي، وبعد ذلك وقعت العلمانية في مواجهة أنظمة استبدادية لم تعارضها ولكنها لم تحملها كقضية مركزية». سعى باسل عبدالله إلى تلطيف شروط العلمانية واخراجها من حقل الاتهامات، تفادياً للتصادم مع رموز الاستبداد الديني والسياسي.