لم تكن اللحظة التي اقتحم فيها مسلحون منزل «منى» وزوجها «سميح» في ريف دمشق، واختطافهم للزوج أمام أعين عائلته إلا بداية وحسب. أحداث عصيبة مرت على الشابة الثلاثينية منذ ذلك اليوم، كان أصعبها لحظة مشاهدتها للفيديو الذي يوثق مقتل زوجها المختطف، لكن ما بقي من تفاصيل في حياتها لم يكن أسهل بكثير. تقول منى: «وكأنني انتظر عودته في أي لحظة، في البداية أصابتني حالة من الهلع والخوف، امتنعت معها عن النزول من المنزل، ارتدت عيادة طبيب نفسي لمعالجة الأمر، وأنا اليوم أعيش على المهدئات».
قد تختصر منى كلاماً يطول عن واقع السوريات في زمن الحرب، لكن ما ينتظر المرأة السورية الوحيدة بعد رحيل الزوج أشدّ ألماً وصعوبة من مجرد الفراق. «سلمى» واحدة من آلاف النساء اللواتي فقدن معيلهن ووجدن أنفسهن وحيدات في مواجهة ظروف حياة قاسية تزيد الحرب من وطأتها يوماً بعد يوم، فهي التي توفي زوجها متأثراً بجراح لحقت به جراء قذيفة هاون، تقسم اليوم الطعام الذي تحصل عليه من الجمعيات الخيرية بين أطفالها وتبيع بعض المعونات لتتدبر شيئاً من الأعباء الأخرى لحياتها مع أطفالها، وتتشارك أيضاً معهم بأمتار الغرفة الصغيرة، التي يعيشون فيها بإحدى مناطق العشوائيات في دمشق، وسط تدخّل عنيف من أخ زوجها في تفاصيل حياتها.
فرغم كل ما يبديه المجتمع المحيط من تعاطف معها، إلا أن هذا التعاطف مع «الأرملة» لا يعفيها من النظرة التقليدية وفقاً للباحثة الاجتماعية يسرى زريقة، ففضلاً عن فقدان قرينها يأتي المجتمع ليعيد صياغة واقعها، فيفرض عليها قوانين تمنعها من الزواج مرة أخرى، أو الخروج الى العمل إضافة الى علاقتها بأهل الزوج وتبعيتها لهم، فالصورة سلبية عن المرأة فاقدة الزوج في «العقل الجمعي».
ظروف الحرب استثنائية بكل المعايير بالنسبة للمرأة الوحيدة كما تضيف زريقة، ففي ظل الحروب تولد الكثير من المشكلات الاجتماعية وتبرز ظواهر غريبة لم يعتدها المجتمع من قبل في حالاته الطبيعية، فيما يحذر تقرير لمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في تقرير نشرته في حزيران عام 2014 أن «عشرات آلاف النساء وقعن في دائرة المشقة والعزلة والقلق في سورية ليكافحن من اجل البقاء، بسبب اختفاء أو مقتل ازواجهن».
فيما وجد ربع نساء سوريا أنفسهن مجبرات على إعالة أسرهن، بعدما كان الرجل هو المعيل التقليدي للأسرة السورية، وبحسب تقرير المفوضية فإن نقص المال يمثل الصعوبة الكبرى، حيث تكافح المرأة الوحيدة لسداد أجر البيت وإطعام أطفالها، فيما لا تملك الهيئة السورية لشؤون الاسرة أي احصائيات رسمية بهذا الخصوص.
بيد أن شوارع المدن السورية وأبواب الجمعيات الخيرية هي أول من يشي بأعداد النساء المعيلات ممن فقدن أزواجهن، «ليلى حلبي» واحدة منهن، مرت عليها تسعة أشهر وهي لا تعرف مصير زوجها قبل أن يخرج من دائرة المفقودين، وتكتشف أنه يقاتل إلى جانب مجموعة مسلحة، تقول ليلى: «تخلى عني وعن أطفاله ولم أعد أعرف عن أخباره شيئاً، أواجه قسوة الأيام وحدي لا مال لا عمل». وتتابع ليلى بكلمات امتزجت مع الدموع، وهي تحكي كيف وجدت نفسها اليوم تفترش الرصيف مع أطفالها، وتمد يدها للغرباء على حد تعبيرها.
مراكز اللجان الطبية الدولية هي شاهد آخر على معاناة النسوة الوحيدات، يتحدث الاختصاصي النفسي تيسير حسون عن مشاكل نفسية بالجملة أصابت هؤلاء السيدات: القلق، الخوف، الاكتئاب، إضافة إلى اضطرابات نفسية مختلفة، تضاعفت أعدادها بين مراجعات مراكز اللجنة الطبية الدولية في مختلف المناطق، حالات لدرجة محاولات الانتحار.
«وصاية الرجل على المرأة» كانت هاجساً آخر بالنسبة إلى «يارا» التي فقدت زوجها أيضاً قبل عامين عندما «خرج ولم يعد»، إلا أن خوفها من «الوصاية» دفعها للكفاح من أجل العيش وحدها بعيدة عما تفرضه الوصاية من قيود، فسكنت وحدها وعملت في إحدى الصيدليات لتكسب المال وتعيل العائلة، تقول لارا: «أعيش استقرارا نسبيا منذ أن بدأت أتدبر حياتي، رغم أني لم أسمع عن زوجي شيئاً منذ خرج من البيت وفقدت الاتصال به».
وبشيء من التفاؤل تتابع قائلةً: «كانت التجربة غنية، فقد أضافت خبرات إلى خبراتي، لطالما كنت مؤمنة بأنني أساوي الرجل في القرارات، والقدرة على تحمل المسؤولية».
«حالهن الصعب لا يفرض عليهن فقدان الأمل، ولكنها تستدرك وتؤكد ان الأمل وحده لا يكفي، فما من منظمات تعنى بالنساء الوحيدات، وتحملهن على الخروج من الأزمات التي يجدن أنفسهن فيها دون سابق انذار، لذلك لا بد أن تدرج المرأة الوحيدة على رأس أولويات المنظمات الرسمية منها والأهلية»، تتابع.