محمد بنيس *عزيزي أنسي
مرّ عام على توديعكَ وأنت تسَافر من أرْضٍ إلى أرْض. بعَينيْ نَسْرٍ ظللتَ تنظرُ إلى العالم تحت قدميكَ وأنت تبعُد، تحلّـق، مرتفعاً نحو العلوّ الذي اخترتَ أن يكون مكانكَ لا سواه. في يوم السّفر، جلستُ أشاهدُ جَناحيْكَ ينبسطان على جبَال ومُحيطات، وقدِ امّحَتْ فيها حدودُ الشرق والغرب. كانت لكَ الأرضُ التي تقيم فيها قصائدك، ورافقتكَ السماءُ التي كنتَ تحلق فيها حُراً من عذابات الوطن واللغة والإبداع.
عامٌ مضى على سفركَ فيما لم تغبْ عنك الأرضُ حتى اليوم، هي فجرُك ومساؤُك. وبينهما وقتُ كتابة «بدايات» لا تتذكّر ولا تُـنبئ. إنها نشوة أنْ تكونَ حُراً، حُراً، فقط. أنت لا تحتاج إلى أخبار عن حياتنا. فكتابة البدايات التي تَغويك هي السرّ الذي بودّي لو تكشفُ لي عن حُروفه الأولى. نعم، بداياتُ عالم أو بداياتُ جسد أو بداياتُ سفر. ما الفرق بينها جميعاً؟ أليست المغامرة هي اسمُها المشترك؟ لكن كلمة المغامرة أصبحت مهجورة، كما تعلم. ومهما بحثنا، هنا، عن معْناها فلن نعثرُ إلا على حُطام يتباهَى به الواهمون من بيْـننا.

أحياناً، يلذّ لي أنْ أسْخرَ من نفسي وأنا أردّد: إنها الحياة. كأن الحياة لم تعُدْ تقـوَى على ما يلزمُها من المجهُول كي تبقى حياة. هي اليوم مجردُ شيْءٍ محفُوظ في عُلبةٍ ملفوفةٍ بورَق جذاب ومربُوطةٍ بخيْط مذهّب. يكفي منظرُ العلبة وهي تنتقل من يديْن إلى يديْن على شاشة التلفزيون. وبعْدَ هنيهة تبدو مشاهدُ كلّ يوم منْ قتِيلينَ ومُعذَّبين، لا صوتَ لهُمْ.
تأكدتُ خلالَ هذا العام أن الكلمات اشتدتْ برودتُها وأن نفسي تضاعفت غربتُها عن نفسي. من قبلُ كانت الكلماتُ تؤنسُني لأنها كانت ذاتَ معنى. لكن يبدو أنّ التفكير في المعنى أصبحَ صنْواً للاختلال العقلي أو عرَضاً من أعْراض فُقـدان الذاكرة. مع ذلك أستمرُّ في اختراع فضاءات لنفْسي ولمَنْ لا أعرفهُمْ. تصعبُ العودةُ إلى الوراءِ في حياة كالتي اخترتُها. ولا أعرف كيف أسمّى الاستمرارَ في اخْتراعٍ كهذا. فهو ليس باتّجاه الأمام ولا ثُبوتاً في نقطة ينتـفي فيها تصوُّر المسافات والأبعاد. ألم تكتُبْ «أحبّ ذكرى الأيام التي تمشي تمشي ولا تعرفُ أنها ستنْتهي في كتَاب»؟ هل هي ذكرى ما مضى أم ذكرى ما سيأتي؟ أسألُ نفسي وأعلم أنهُمْ لا يفهمُون ما نكتُب.
أتخيلكَ الآن، بعْد عام على سفَرك، تطلُّ من نافذة على الأزرق. وأقول إنك في حوَار يبدأ مع عَوالم لا نعرف عنها شيئاً. بدوْركَ تنتبهُ إلى مكان تتخلّى عنه صفاتُ المكان، وإلى وقت يتبددُ فيه الوقت.
إلى هناكَ أبعثُ لك بتحية، كنت رددْتَ عليها ذات مرة بابتسَامةٍ مرحَة.
أخوك
* شاعر مغربي