من أين أبدأ الكلام عن أنسي الحاج؟ في خطواتي الأولى إلى أرض الشعر، ظلّ أنسي أحد المصابيح التي أتكأ عليها. شاعرٌ تنحني كلماته لتصافحك كأنها وردة مطليّة بالعسل والمرارة. في كل سطر له، كانت كلماته توخذ كإبرة تنتفخ بالأدرنالين. ظلّ أنسي أميراً مزهوّا بجملته الشعرية. يعرف أن أرض الشعر مقدسة كأن تلك المقاطع الشعرية التي ينسجها مستلّة من شذرة غيم. وجبة شعرية تشبه فواتح الشهيّة، لا تخمة أو رتوش زائدة، فقط حبات كرز على طبق بورسلين أبيض. لقد ظلّ أنسي أحد هؤلاء القليلين الذين يمزجون في كتاباتهم بين جماليات الأدب، ورصانة الصحافة. أميرٌ يخرج من كل حروبه منتصراً، لكنه يفتش في كل مرة عن رأسه المقطوع بين الطرائد. إن أشعار أنسي الحاج أشبه بتوليفة بين نوستالجيا الماضي ومفاجآت المستقبل، نعم إنها ماضي الأيام الآتية، كما أنه الثائر على النمط التقليدي للشعر. لقد قدّ قميص التراث، واضعاً القصيدة الجديدة بين شقّي الرحى. أشعاره تفتش دائماً عن الجوهر والأصول، فالمعادلة بسيطة يُمكنكَ أن تلخّصها بين كلمتي: الذهب والوردة.
■ ■ ■


أشعار أنسي هي الأكثر نقاوةً. لذلك، تجده يبحث دائماً عن الحكمة في فيم الغيوم. وكما يقول: «هل يحب الرجل ليبكي أم ليفرح/ هل يعانق لينتهي أم ليبدأ؟/ ليس للإنسان أن ينفرج بدون غيوم/ولا أن يظفر بدون جزية». نعم يا أنسي، إنها رحلة الشقاء والبحث عن البدء والانتهاء في محراب الحروف. كان أنسي يحاول كتابة الشعر بروح الإنسان الأول، الأقدام التي تلمس صدر الأرض للمرة الأولى، والمطر النقيّ الذي لم يظفر به طين الأرض. كتب لكل شيء، للرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع، للمجوس الذين رجعوا وقالوا، ولحكمة الطير الأسود. كان أنسي يركض في أرض الشعر كأمير بجدائل من ذهب، وفي يده سيف من ضياء. يشق الوادي إلى نصفين، ويهدر نفسه شلالاً على صخرة بيضاء. ظلّ سؤاله دائماً عن صفاء الذهب ورِقّة الوردة. ولأنه ربيب المغامرة كان يقول: «من أجمل ما يمكن أن يحدث هو أن ترمي نفسك/ كل يوم من النافذة بتلذذ متجدد واكتشافات فاتنة». نحن الشعراء نحاول دائماً أن نجد تعريفاً للحكمة والألم معاً. أن نبحث في صمت عن نهاياتنا المحتومة، لكن يبدو أن صاحب «لن» كان يعرف السر منذ البداية، فقال: «لن أكون بينكم/لأن ريشة من عصفور في اللطيف الربيع/ستكلل رأسي/وشجر البرد سيحويني/وامرأة باقية بعيداً ستبكيني/وبكاؤها كحياتي جميل». لن نودعك يا أنسي ففي جديلة كل صنوبرة، ما زالت أشعارك تداعب جفونها.