كنت أقرأ له واستزيد بعد كل قراءة في محاولة لمعرفة أي الخصائص يتميز بها عن غيره من مريدي الكلمة والمنوع الثقافي. وفي كل مرة في محاولاتي، كان يلح عليّ سؤال واحد بعينه: هل أنسي الحاج شاعر أم ماذا؟ نعم هو يكتب القصيدة النثرية بصورتها المثلى، على أنني كنت أجد في هذا الشاعر ليس الشاعر المبدع فقط، المتمكن من أدواته وصوره وألوانه، المبهج والمدهش في نفس الوقت.
الأقدر على امتلاك ناصية اللغة قبل الهم في كتابة القصيدةليس هذا فحسب. كان يسترعي انتباهي أنه شيطان قصيدته. الشيطان الذي ينتظر الآخرون حضوره في محفل اللحظة كي يكتبوا. لذا، اعتقدته وفق هذا الحجم من الحضور أنّه القدرة الإلهامية لذاته التي يستطيع من خلالها أن يدهشنا بما يخلق من معجزة في عالم القصيدة. وجدته، أو هكذا تراءى لي، أن أنسي الحاج ليس شاعراً، إنما هو فيلسوف يريد وبقدرته كشيطان للشعر، أن يفلسف ماهية الشعر، وكيف على القصيدة أن تكون على قياس اللغة التي عليها أن تطاوعه كي يكتبها أو تطاوعه بعناية. كان ووفق هذا، هو الأقدر على امتلاك ناصية اللغة قبل الهم في كتابة القصيدة. كان يفلسف الجمال في صور شتى.. المرأة، اللون، الصورة، الزمان، المكان. المتعة التي تستغرق الذائقة لتحصل معجزة التفاعل والتماهي. المتغيرات الحياتية والنفسية. في السياسة والاجتماع والفلسفة ذاتها. كل هذا في لغة مطواعة حيناً، ومتمردة في أحايين آخر. يتلاعب بها كما يتلاعب نحات فنان في طينة اشتغاله كي تأتي على هواه وإلا فلا. هذا المتفلسف في مناخاته المتعددة، وهو المقتدر على لغته التي يحق لي تسميتها باسمه "اللغة الأنسية"، كان قادراً على تغيير مناخات اللغة حتى يجدها مناسبة لمناخه هو. لمواسم شعره. تذكرت أنني في إحدى المرات، قرأت له رداً على محاولات البعض النيل من سعيد عقل قائلاً: "ما كان ليكونوا لولا سعيد عقل، كثيرون من حملة حملة الأقلام اليوم. سيكتبون أحسن لو قرأوا سعيد عقل. الأديب يقاس بكتابته، خاصة حين يكون أكبر من معظم الذين يقيسون". عذراً، لم أكن أقيس أنسي الحاج، إنما كنت، وقد أفقت من غيبوبة الاندهاش به، أُكبر في محاولات الآخرين إيفاء حق الحاج قدره كظاهرة، أكان على شكل احتفالية بمناسبة ذكرى رحيله، أو تقديراً يستحقه بجدارة حين يضعون صورته مع عملاقين آخرين على طابع بريدي. أجده إن لم أقل إن هذا أقل شأناً منه، أنه كان يكفيه أنه ابن للبنان الجمال والثقافة، وأن على لبنان أن يفخر بأنسيه.
شاعر عراقي