باريس | لنتفق على هذا، ميشال ويلبيك كاتب جراح. بمبضعه الأدبي، أتقن الجسد الفرنسي والغربي الذي يعيش أزمة هوية يعيد عبرها ترتيب علاقاته مع «يوتوبيات» اليسار والحرية والفردانية. يتهجم ويلبيك على كل هذه المقدسات منذ «توسيع رقعة الكفاح» (1994). الرواية التي جعلته واحداً من الأبناء المدللين للأدب الفرنسي. يخلص إلى أن كليانية السوق والبؤس الجنسي تتربص بالأفراد، وأن تمجيد الأنا دفع بفرنسا إلى القاع.
قطاع واسع من النقاد الفرنسيين يقول إنّ أعماله من أهم ما يكتب في فرنسا اليوم. منتقوده يرون في تخييله بوقاً لليمين المتطرف بحكم تقاطعه مع كتابات يمينية تخلف الإسلاموفوبيا، بينما يدعي هو عدم الاكتراث. لكن تاريخه في الأدب وخارجه يوحي برجل استطاع فهم المعادلة اللاأخلاقية لوسائل الإعلام: كلما كنتَ إشكالياً وأحدثت الجدل، كلما استحوذت على الأضواء والشهرة الإعلامية.
ربما حقده المبالغ على الفردانية والمثل الستينية مرده إلى طفولته. لنعد قليلاً إلى ميشال توماس، وهو اسمه الحقيقي. تطلقت والدته من والده المرشد في الجبال، وفضلت البقاء في جزيرة لارينيون هي المتحدرة من فرنسيّي الجزائر. عاش في الجزائر خمس سنوات، شكلت طفولته الأولى، قبل أن ينتقل مع جديه لوالده إلى فرنسا. خجول وقلق، يرتعب من فكرة الاقتراب من الجنس الآخر. هكذا يصفه الصحافي دوني دومابيون في «ويلبيك – سيرة غير مرخصة» (2005). يضيء العمل على الروائي الإشكالي: طفولة مريضة، حرمان من الأبوين، استحالة إمكانية الحب، كلها عناصر بلورت عداء الكاتب تجاه العالم. إنه عداء أدبي أساساً فسره ضمنياً في «البقاء حياً» (1991). عانى كثيراً قبل الوصول إلى رفوف المكتبات. ولولا الناشر الشهير موريس نادو الذي وضعه تحت جناحه، لما نشرت «توسيع رقعة الكفاح». رواية رُفضت من دور نشر عدة، قبل أن تجد طريقها إلى النجاح بمبيعات وصلت إلى مئتي ألف نسخة، ما أدخل ويلبيك نادي الأدباء. شخصياته كئيبة، وعازمة على التخلص من كل أمل، لكن تقنيته في الكتابة التي تراوح بين التقريرية والسخرية، تجعلها قادرة على تمثيل العبث الذي يحيط أفراداً يعيشون العزلة، ولا يملكون القدرة على الحب أو التشبت أو الانتماء. إنها كائنات ضحية دائمة لاقتصاد السوق، الذي يجعل الجسد سلعة أيضاً. لهذا تبحث عن لحظات من السعادة في الجنس الكئيب. تشاؤمه، وشخصياته البائسة، وتصريحاته العنيفة تجاه العديد من الجماعات خلقت شبه قطيعة بينه وبين بعض الدوائر الأدبية. وفسر بعضهم تأخر حصوله على «غونكور» بأنه عقاب له على مواقفه. لكن المؤسسة العريقة ابتسمت له في 2010 ومنحته جائزتها عن «الخريطة والاقليم». الرواية أحاطها بعض الجدل، خصوصاً أنّها استولت على مقاطع من موسوعة «ويكيبيديا»! وإلى جانب الأدب، يكن ويلبيك عشقاً خاصاً للسينما. منذ شبابه، كان يحلم بأن يكون مخرجاً. أنجز عام 2008 فيلماً مقتبساً عن روايته «احتمال جزيرة» لكنه كان فاشلاً، كما كتب ومثّل في بعض المشاريع الأخرى. يتقن ويلبيك فعل التواصل مع الإعلام. بسخريته اللاذعة، واختراقه للخطوط الحمر، يحدث الجدل، ويجبر محاوريه على حبه أو كراهيته. كيف لا وهو الذي جعل العنف اللفظي تجاه الآخر حصانه للسباق نحو عناوين الأخبار؟ أكثر المتضررين من أعمال الكاتب منذ بداية الألفية هم النسويات والمسلمون. لكن لم يسلم اليسار ولا الكنيسة، ولا العائلة من انتقاداته. منذ روايته «منصة» (2002) راكم المواقف الحرجة والمتطرفة التي جلبت عليه عداء كثيرين: وصم الإسلام «بالدين الأحمق» وقارن المرأة بقطعة اللحم، والعلاقة بين الشعوب الفقيرة والغرب بأنها علاقة سيطرة جنسية. كما عادى الجمهورية الفرنسية، واعتبرها مجرد «فندق». مواقفه القريبة من مواقف اليمين المتطرف تدفعه إلى تملك أعماله التخيليية وتسويقها على أنها تستبصر المستقبل الفرنسي الذي يشكل فيه المهاجرون خطراً على «قيم فرنسا». على العموم، تهرّب ويلبيك في حواراته القليلة التي أجراها عشية صدور روايته الجديدة «خضوع» من كيل الانتقادات للإسلام. ذهب إلى أنه قرأ القرآن ويفهم الآن أنّ الإسلام المتطرف تفسير من تفسيرات أخرى للدين خلافاً لمرحلة «منصة». يومها، أجبرته تصريحاته على الهروب والاختفاء في إيرلندا بعد إدانة من الجمعيات الإسلامية وتهديدات بالقتل من متطرفين.
مجزرة «شارلي إيبدو» جعلته يعلن إيقاف الترويج الإعلامي لروايته، حداداً على أصدقائه في المجلة والابتعاد عن باريس لفترة من الزمن. توقف موقت لأن الرجل صار جزءاً من نقاش عام في الجمهورية الفرنسية سيعيده سريعاً إلى الأضواء.