حين تقتل اسرائيل جنرالاً ايرانياً بمستوى محمد علي الله دادي عند حدودها في الجولان، فهذا يعني أنها قررت رفع مستوى الاشتباك مع طهران وحزب الله وسوريا. وهذا يعني ان ايران صارت فعلاً عند حدودها. هذا هو الخطر والتحدي. فالقضية الدولية والاقليمية الاولى هي علاقة ايران ومحور المقاومة باسرائيل. وفي هذه العلاقة، ثمة عقلان استراتيجيان يدركان تماماً أن كل خطوة وكلمة كفيلة بقلب معادلات المنطقة. انهما مرشد الثورة الامام علي خامنئي ومرشد المقاومة السيد حسن نصرالله.
يكفي أن يقول خامنئي او نصرالله، علانية، «اننا قبلنا وجود اسرائيل»، ليتسلما كل مفاتيح ادارة المنطقة. من لديه شكوك بذلك، فليراجع سجلّ الأسرار والكتب والتصريحات التي قيلت بهذا المعنى، وآخرها كتاب «حزب الله والدولة في لبنان» للنائب حسن فضل الله. كان قبله ما كشفه نصرالله نفسه عن العروض السخية التي أتت، وكان قبلهما وبعدهما ما حمله، أكثر من مرة، الرؤساء الاميركيون والفرنسيون للرئيس الراحل حافظ الأسد، أو ما حمله بعدهم وزير الخارجية الاميركي كولن باول او المبعوث الرئاسي لجاك شيراك، موريس غوردو مونتانيو، الى الرئيس بشار الاسد. كل تلك الرسائل تقف عند طلب واحد: «اصنعوا السلام مع اسرائيل وخذوا ما تشاؤون».
تكفي مراجعة الكتاب المهم للمستشارة الرئاسية السورية الدكتورة بثينة شعبان «عشرة اعوام مع حافظ الأسد» لنفهم أن الاميركي كان مستعداً لأوسع تحالف استراتيجي مع سوريا، ولمساعدتها لتصبح الدولة الاقليمية الاولى لو قبل الاسد سلاما ناقصا 10 في المئة فقط من الجولان المحتل.
ليس الدور الايراني في المنطقة، اذاً، هو الذي كان يقلق أميركا كما يظن بعض أهل الخليج الذين لهم الحق طبعاً بالقلق من هذا الدور. انما اسرائيل، ولا شيء غير اسرائيل. لأنها ببساطة تمتلك مفاتيح القرار في الولايات المتحدة. من لديه شك بذلك فليراجع الكتاب الأكثر من قيِّم «The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy» (اللوبي الإسرائيلي والسياسة الأميركية الخارجية) لمؤلفيه الاستاذين الجامعيين الشريفين اللذين بسببه طُردا من عملهما، جون ميرشماير وستيفن والت.
دور ايران كان مقبولاً جداً ايام الشاه بما في ذلك النووي، صار مرفوضاً بسبب اسرائيل. ولمواجهته، يذهب بعض قصيري النظر من العرب الى حد مد الجسور العلانية او في ظلام الليل مع الحكومة الاسرائيلية، لكن المعادلات تتغير. صار الغرب بحاجة إلى ايران في مقاتلة الارهاب، وهو يفاوضها حول برنامجها النووي آملاً تخفيف قلق اسرائيل اولاً، ثم كبح التطور العلمي النووي الايراني عن المنافسة في أسواق العالم، المنافسة هذه أخطر على الغرب من القنبلة النووية.
كيف لدولة محاصرة ومكبّلة بالعقوبات ان تطور علومها بنسبة تفوق 11 في المئة عن كل المحيط بحسب تقرير رويترز طومسون؟ كيف لها أن تقفز فوق مشاكلها الاقتصادية لكي تدعم، مالياً وعسكرياً وسياسياً، جبهة حلفائها الممتدة من العراق الى اليمن وسوريا وصولاً الى فلسطين ولبنان؟ كيف لها أن تصل الى القمر الصناعي وتصنِّع أحدث الصواريخ والأسلحة والطائرات والتكنولوجيا والمعلوماتية وهي محاصرة؟
سيسارع البعض الى اتهام كل من يكتب مثل هذا الكلام بأنه «صفوي» و»نُصيري» و»متشيع». هذا طبيعي. فالعجز عن ضرب ايران والحزب، استُبدل بمحاولة تشويه الصورة.
سهل على رافضي الدور الايراني الاتهام، ولكن الأهم هو البحث عن استراتيجية أكثر فائدة من الاتهام. ايران والعرب يحققون نصراً اكبر حين يتوافر الحليف السني. هذا نجح مع حماس والجهاد، ونجح مع الوزير نهاد المشنوق في لبنان، ونجح مع اطراف سنية في اليمن تتحالف الآن مع «انصار الله» الحوثيين، ونجح مع قيادات سنية في العراق بعد تغيير نوري المالكي.
يغرق العرب في اتهام بعضهم بعضاً، جرياً على معهودهم مذ كانت غولدا مائير تحمل حقائب المال لبعضهم ضد البعض الآخر، ومذ كان الاستعمار البريطاني يؤلب قائداً خليجياً ضد قائد آخر. في هذا الوقت بالذات، تستمر ايران في رفع مستوياتها القتالية وتحسين شروطها التفاوضية. هي لم تقطع مع أحد، لا تزال تفاوض الجميع، تجلس على طاولة واحدة مع الشيطان الاكبر، تطوّر علاقاتها مع تركيا بالرغم من موقف الأخيرة المؤذي للحليف السوري، تستثمر في الامارات حيث عندها اكبر جالية وأكبر رأس مال، بالرغم من ان الامارات هي المعنية الاولى في الخليج بالجزر الثلاث المتنازع عليها مع ايران، لا بل ان قمة بيروت عام 2002 التي طرحت السلام مقابل التطبيع ما كانت لتحصل لولا مرونة حزب الله وسوريا وايران. ليس التفاوض هو المرفوض، بل النتيجة.
وفي التفاوض، ثمة سعي ايراني دائم الى جذب الطرف السني واستعادة الجسور معه. ظهر ذلك جليا منذ قام «الربيع العربي». سارع خامنئي الى القول انها صحوة اسلامية. أراد ان يجذب الاخوان المسلمين، وخصوصا في مصر، ويؤكد الروابط مع حماس والمقاومة الاسلامية.
ايران وحزب الله والرئيس الاسد أمام معادلة بسيطة، اما يقولون نعم للاعتراف باسرائيل فيصبحون أسياد القرار في المنطقة، او يستمرون على مواقفهم، وهم بذلك بحاجة للطرف السني ولتقديم تنازلات. الخيار الثاني هو المرجَّح، فتتعاظم فرص الحوار بين الحزب وتيار المستقبل، وتتحسن الشروط في العراق ولاحقا في اليمن، وتساهم ايران في توفير حل في سوريا. كل هذا يرفع مستوى القلق الاسرائيلي لدرجة عدم التردد في قتل قائد عسكري ايراني في الجولان. كيف لا تقلق اسرائيل، والجنرال الايراني الذي قتلته كان واقفا عند حدودها؟ هنا كل كلمة السر.
حين تصبح ايران مباشرة عند حدود اسرائيل، يجب أن ننتظر حربا واسعة وشرسة ومدمرة، او مفاوضات مغايرة لكل انواع الاستسلام التي حصلت منذ مدريد مرورا باوسلو، او ننتظر حربا ثم مفاوضات. هنا كلمة السر الثانية. يبدو أن باراك اوباما فهم ما لا تريد اسرائيل ان تفهمه. التفاوض خير من الحرب مع ايران. الاولى محتملة النجاح، الثانية مجهولة المآل. فكيف اذا كان العالم بحاجة لايران والحزب والجيشين السوري والعراقي لمحاربة الارهاب؟ لو أن اثرياء العرب بقوا عند حدود اسرائيل داعمين لمقاوميها، لما كان الدور الايراني بهذه الأهمية. هنا كلمة السر الثالثة.