حين يرتقي شهيدٌ كعماد مغنية أو حسّان اللقيس أو محمّد عيسى، لا نُقابل الاغتيال بإحساسٍ بـ «الغدر»، أو بالشكوى من «عدوان»، فالقادة يسقطون في مواجهةٍ جارية، كرّسوا أنفسهم لها ويعرفون جيّداً شروطها، وهم أصلاً لم يكونوا يتوقعون لأنفسهم ميتةً أخرى – أو أفضل.
لم يذهب الشهداء هباءً، ولم يستشهدوا على ضعف؛ بل قاتلوا وقَتلوا. شهدوا في حياتهم الانتصار على عدوّهم وتحرير أرضهم، وكلٌّ منهم قد حفر جرحاً في وجه اسرائيل قبل أن يغيب.
اخوتهم ورفاقهم لا يتوقّعون دعماً، ولا يطالبون أحداً بالتدخل والنجدة، بل يخططون، بصمت وعلى طريقتهم، ثأراً يليق بالشهداء؛ وإن كانت تجربة العقود الماضية مؤشّراً، فالثأر لن يكون على الطريقة البدوية، روحاً بروح ونفساً بنفس، بل عبر فعلٍ تاريخيّ مستدام يقرّب الصهيونية، خطوة جديدة، نحو فنائها.
ولأنّ الشهادة جاءت في خضمّ مواجهة، فإنّ ردود الفعل عليها، السيئ والجيّد منها، كانت جزءاً من هذه المواجهة، وهي شكّلت فرزاً مفيداً. وصلت بعض القنوات الاعلامية «اللبنانية»، مثلاً، الى حدّ مواكبة الاغتيال عبر الترويج لروايات المخابرات الاسرائيلية عنه، بعد دقائق من الهجوم. وسلوكٌ كهذا ليس جديداً ولا مستغرباً، بل إنّ واقعة الشهادة، بلا شك، تدفع الكثيرين لتحسّس تفاهة وجودهم ووضاعة موقعهم، فتستفزّهم.
يوم استشهد مغنيّة الأب، منذ سنوات، اختار وليد جنبلاط، في مهرجان شعبي حاشد، أن يشمت بالشهيد، ويسخر من الشهيد، ويكذب على الشهيد؛ معتمداً على مبدأ أن لبنان لا يحاسب أمثاله، وأن الناس لن تقوم لتقتصّ ممن يستغلّها ويسرق تاريخها ويهين شرفها.
وهناك اليوم «جنبلاطيون» كثر، (حتى في الأرض المحتلة!) و14 آذار تأتي بأشكالٍ مختلفة. هؤلاء تشفق عليهم، ولا تكرههم ولا تعاديهم، فهم مساكين يحفرون بأيديهم قبراً من الذلّ، لهم ولأولادهم، ليمكثوا فيه. ومن استبدل الوطن والمقاومة وفلسطين بطائفة حقيرة (وكلّ الطوائف، حين تصير في المخيال المريض أمماً، هي حقيرة) لا ينال ظفراً ولا تحريراً ولا يشعر بكرامة، وهو لا يضير الشهيد بكلامه، بل يحقّر نفسه وحدها، اذ يضيف على المهانة التي ألِفها عاراً لا يمحى.
أن يسقط مجاهدو المقاومة على أرض الجولان هو دليلٌ على أنّ الصراع ضدّ العدو (الخارجي والداخلي) لم تعد له حدود؛ ومن يستعمل دخول حزب الله في الحرب السورية كحجّة للوقوف ضدّ المقاومة عليه أن يفهم – كما اسرائيل – أنّه مقابل كلّ شهيدٍ يسقط، تكسب المقاومة مئة مقاتلٍ مدرّب ومتمرّس، وأنّ جهازها العسكري قد كبر أضعافاً منذ بدء الحرب في سوريا. الفائز الوحيد هنا هو من نال الشهادة، كما يحبّ وبأجمل طريقةٍ ممكنة، في مواجهة عدوّه، وأمام ناظريه تمتدّ أرض فلسطين.