بغضّ النظر عمّا إذا كان جهاد عماد مغنية قد استهدف شخصيا أم لا؛ فإن استشهاده رفع من سخونة المشهد إلى الحد الأقصى؛ فلا يمكن، هنا، الفصل بين الانساني والسياسي، حين يتعلّق الأمر بسلالة المقاومين البطولية هذه، وتراجيديا ارتواء الأرض السورية بدماء الأب والابن؛ هل من غير اللائق أن أقول إن دمعتي قد فرّت من عيني، وأن وقع هذا الاسم الثلاثي، وحده، قد أثقل قلبي؟ وهل من الحكمة أن أسأل عما يلزم من وجعٍ، لكي يكبح السيد دمعتَه، ويدرس، بعقلٍ بارد، المعطيات والخيارات؟
عادةً ما يزعجني المحللون "الاستراتيجيون" الذين يكررون درسهم؛ هذا المساء، شعرتُ بأنني لا أستطيع الاستماع لتلك الكليشيهات؛ الذين في غرفة العمليات الاستراتيجية فعلا، هم القادرون على اتخاذ القرار الصحيح بالخطوة التالية؛ ليس لدي الآن سوى ما أتمناه من أن يكون ذلك القرار الصحيح، لدى قيادة المقاومة، هو القرار بالردّ. لديّ هذا الشعور العميق بأن اللحظة الفاصلة تقترب؛ سوريا ليست، فقط، ميدان المعركة، سوريا هي المعركة التي تتضافر فيها كل القضايا: فلسطين إزاء الكيان الصهيوني، والمقاومة إزاء الاستسلام، والاستقلال إزاء التبعية، ووحدة الشام إزاء التفتيت الطائفي، والإنسانية والحضارة إزاء الموجة التكفيرية والإرهاب.
الجولان، وحده، يكشف كل تلك المعارك المتداخلة؛ فبينما تتحد البندقية الإسرائيلية والسيف التكفيري، ويغدو "مجاهدو" القاعدة والوهابيّة، جداراً طيباً للاحتلال، تتعانق دماء المقاومين، الجنود والمقاتلين، من سوريا ولبنان، في وحدة المصير، في مواجهة الحلف الأسود، ويُحيي الابن ذكرى أبيه؛ لم يمت جهاد، بل عاش عماد، على الأرض نفسها، من أجل الأرض نفسها، الأرض التي تنبذ المحتلين والحدود.
كيف تلاقى الوهابي ــــ القاعديّ بالإسرائيلي؟ سوف نفهم، إذاً، أنهما من جذرٍ واحد يمتدّ حتى يهوه، إله الكراهية والخراب والحرب؛ سوف نفهم كيف ينتهي استخدام الطائفية لتحقيق الأهداف السياسية، أداةً للإسرائيليين؛ سوف نفهم كيف يكون الاحتلال، بالوجهين البشعين، هو نفسه؛ لكن ما لا نستطيع أن نراه إلا بعين القلب، هو الوجدان الذي بناه القيادي الطالع كالرمح المشغول من إرث العائلة ووهج الشباب والإيمان والحب؛ هل من اللائق، هنا، الحديث عن الحب؟ وهل هنالك غير الحب ما يدعو الى الفداء؟
حسنا؛ فلنعد إلى كلام "العقل". لماذا استعجل الإسرائيليون، التصدي لتصريحات السيّد؟ لم تمض 72 ساعة على اعلانه جهوزية المقاومة لصدّ أي عدوان محتمل، بل ونقل المعركة إلى الجليل، وما بعد الجليل، حتى ذهبت إسرائيل، بقرار مؤسسي، إلى الأسوأ، وضربتْ هدفاً لحزب الله في القنيطرة بالجولان السوري. الضربة، هنا، مقصودة، لتحقيق هدف عاجل: امتحان ولجم مفاعيل الكشف عن قرار محور المقاومة بالردّ على الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، باعتداء صريح وموجع؛ إذا ردّ حزب الله، عاجلا، سيكون العدوّ هو الذي اختار لحظة المواجهة، وقرّر موعد الحرب، وفرض أجندته ميدانياً وإقليمياً ودولياً؛ وإذا ذهب قرار المقاومة نحو تأجيل الردّ، ستكون إسرائيل قد نجحت في ثلم صدقية المحور كله، وخفض التوتر الذي أحدثته تصريحات السيد في إسرائيل، ورفع معنويات الإسرائيليين والإرهابيين.
ظهور السيد، في لقاء تلفزيوني مسجّل، بجملة من الرسائل المدروسة بدقّة، ارتبط بسلسلة ملفات أساسية: لجم التدخل الإسرائيلي، العسكري والسياسي في سوريا، وصدم "الجدار الطيب"، ومعها خطط الإرهابيين في الجولان وجنوب سوريا، وتأكيد وحدة الجبهة الشمالية. وعلى المستوى السياسي، تحسين شروط التفاوض بالنسبة لأطراف محور المقاومة على الصعد المحلية والإقليمية والدولية؛ وجاء العدوان الإسرائيلي على حزب الله في القنيطرة ، إذاً، محاولة للإطاحة بكل تلك الرسائل، والتصعيد الاستفزازي، بهدف كسر التوازن على الجبهة الشمالية، أو الذهاب نحو حرب تقلب المعادلات الإقليمية، وتضع إسرائيل، مجدداً، في صلب الملف السوري، وتعرقل المصالحة السورية، وتستثير التحالف الأميركي ــــ الإسرائيلي لقطع الطريق على التفاهم مع إيران في الملف النووي، وتستبعد الضغوط على تل أبيب في الشأن الفلسطيني.
الرد، كما قلنا ونعيد، ليس اقتراحاً يقدمه المحللون، وإنما قرار تتخذه القيادة؛ بيد أن إسرائيل، وضعت حزب الله وسوريا وإيران وروسيا، أمام استحقاق صعب للغاية. هذا في لغة السياسة، أما في لغة القلب، فليس سوى شاب يصعد إلى سماء الجولان، راكباً حصان الحسين، اسمه جهاد عماد مغنية؛ هو، وحده، الحقيقة.