لا يخفي المسؤولون الروس نظرتهم الجديدة إلى المشرق الجديد. يقولون لزوار موسكو قبل أيام قليلة بكل وضوح: سوريا جزء من أمننا الاستراتيجي. ولبنان صار، وفق المنطق نفسه، خاصرتنا الاستراتيجية. هذا هو الأساس، أو أطروحة السياسة الخارجية الروسية اليوم، أو إشكاليتها المنطقية الأساسية. تحتها لا يستفيض الروس في شروحاتهم كثيراً. يكتفون بالعناوين العريضة: في سوريا ثمة أكثر من معركة روسية أصيلة، تخاض ضدنا بالمباشر وبالواسطة. ونخوضها نحن بالمباشر وبواسطة حلفائنا. هناك معركة الإرهاب الذي عانى منه الاتحاد الروسي طويلاً ولا يزال. وهناك معركة تخريب الأنظمة بالوسائل الخبيثة التي انطلقت مع عصر "الثورات الملوّنة". وهناك خصوصاً معركة استعادة توازن العالم، انطلاقاً من منطقة أوراسيا والبحر المتوسط خصوصاً. لذلك، قررنا خوض تلك المعركة حتى النهاية. لا يمكننا أن نتساهل فيها ولا أن نتهرب منها ولا أن نخسرها. من يحاول ضرب نظام الدولة في سوريا، سيحاول غداً إذا نجح ضرب نظام الدولة في روسيا نفسها. لقد رأينا ما حصل في ليبيا. وتعلّمنا هناك كيف يمكن للشرعية الدولية أن تستخدم ضدنا. وشهدنا ما حصل في أوكرانيا، وتعلمنا هنا كيف يمكن لعدم الصمود أن يجعل العدو يلحق بك حين تعتقد أنك تهربت منه... من هذه الزاوية ننظر إلى وجودنا في سوريا. ومن هذا المنطلق والهدف على الجميع أن يفهموه كذلك.
لكن الأكيد أننا لا نخوض الحرب هناك من أجل الحرب. بل من أجل الحل. وفي هذا السياق يكشف الروس لزوّار موسكو أنهم بدأوا يتلمّسون طريق الحل للحرب السورية، خطوة خطوة بالتقاطع والتوافق مع واشنطن. يدركون مدى دقة الموضوع. كأنه عملية جراحية في جهاز عصبي أو في صلب دماغ النظام العالمي. مصالح واشنطن معلنة: من دون تراتبية واضحة يمكن تعدادها عشوائياً كالتالي: وضع حد للإرهاب. حفظ استقرار المنطقة. ضمان أمن حلفاء واشنطن، خصوصاً الخليجيين منهم. والأمن والضمانات والاستقرار لاسرائيل. الباقي لا يعنيها. أو لا يهمها كثيراً. من هذه المكوّنات الأولية، يعتقد الروس أنهم قادرون على نسج "بازل" معقولاً ومقبولاً للحلول. المشكلة الوحيدة التي لا تزال قائمة هي تعنّت الرياض. السعوديون يطرحون معادلة جامدة حتى الآن، مفادها: لن نساعدكم على التخلص من إرهاب داعش ومثيلاتها، إلا إذا تعهّدتم لنا برحيل الأسد. الأميركي لا يمانع في المعادلة. لكنه لا يريد دفع ثمنها. ولا يرفض أي معادلة أخرى نصفية أو جزئية: استئصال الإرهاب من دون الأسد أو معه لا فرق. من هذا الهامش يعتقد الروس أنه يمكنهم الولوج إلى حلهم. أن يبدأوا بالمسار، مع شيء من الغموض الخلاق الضروري لأي تسوية بين متناقضين. ثم أن يتركوا المؤدّى لموازين القوى ولما يمكن أن يظهر على الطريق. قد يغيّر السعوديون رأيهم. أو قد يتغيّرون. وقد تتغيّر أوضاع أخرى. المهم أن تكون وجهة المسار واضحة.
لا يخفي الروس هنا أن وجهات نظرهم في التفاصيل، تختلف أحياناً مع وجهات نظر حلفائهم في دمشق. هم يعتمدون براغماتية كاملة في التعاطي. فيما أهل دمشق يسكنهم الحذر. يفهمون ذلك. لكنهم يكررون لهم أن سياقات العملية تحمل لهم كل الاطمئنان. الآن لديهم ستة أشهر. بعدها 18 شهراً قبل الانتخابات. أي أن عامين كاملين محسومان لسلطة حلفائهم في دمشق بشكل مؤكد. بعد عامين تأتي الانتخابات، والفوز فيها سيكون مريحاً حتماً، من ضمن تعديلات في شراكة السلطة وشكلها لا غير. يعترف الروس أن البعض في دمشق ينظر بقلق إلى هكذا مسار. يطرح تساؤلات واستفهامات ويطلب مزيداً من الإيضاحات والضمانات. لكن في النهاية لا حل سوى هذا. يدرك الروس أن عمق الريبة والتوجس في دمشق يكمن في نقاط مستقبلية: كيف التعاطي مع المسألة الكردية؟ وكيف تحييد اسرائيل عن الحل، من دون ثمن "تسوية" ما، تشي بها رسائل الكيان الصهيوني جواً وبراً؟ وما هو الثمن السعودي للقبول لاحقاً بالتسوية؟ وهل يكون أقل من إبعاد إيران عن الساحة السورية؟ وفي ظل هذه المجهولات الثلاثة، الكرد واسرائيل وإيران، كيف يمكن رسم المشهد النهائي لأي اتفاق روسي ــــ أميركي في سوريا وحولها؟
رغم تلك الاستفهامات كلها، يبدو الروس مطمئنين ويوحون لزوّارهم بثقة كافية لاجتياز الأزمة والوصول إلى الحل الذي يريدونه لها. ومن ذلك الاطمئنان والثقة يلجون إلى الوضع اللبناني: لكل ما سبق صار لبنان خاصرتنا الاستراتيجية يقولون. مقولة إن أمن سوريا من أمن لبنان، صارت ثابتة روسية اليوم، بقدر ما كانت دوماً ثابتة الأنظمة السورية نفسها. يدركون أن قوساً دفاعياً واحداً بات قائماً من قاعدة طرطوس ومطار حميميم وصولاً إلى بيروت، مروراً بالأراضي السورية وجبال الحدود مع لبنان وصولاً إلى المتوسط اللبناني. أصلاً، خبر المناورات البحرية الروسية وطلب تحويل خطوط الطيران من مطار بيروت وإليه، كانا كافيين لإيصال الرسالة: هذا هو بحرنا وحوضنا وهذا امتداد أمننا ونفوذنا. وكل ذلك بالاتفاق مع كل محيطه. ما تبقّى تفاصيل. المهم سلسلة الحلفاء التي تحمي ظهور كل منهم، الروس والسوريون واللبنانيون المتفاهمون مع الاثنين... يبقى تفصيل بسيط، لديكم مشكلة شغور رئاسي. الأفضل أن تنتخبوا رئيساً. طبعاً ليس أي رئيس. لكن الأفضل إنجاز ذلك خلال أشهر قليلة. بعدها قد تتعقّد الأمور أكثر. وقد تدخل رئاستكم ضمن تسويات أكبر... لكن، لا تنسوا قانون الانتخابات. فهو بأهمية الرئاسة نفسها!