تفجير انتحاري مزدوج في جبل محسن - طرابلس. جبل محسن ليس أكثر من حيّ ضمن طرابلس. الانتحاريّان لبنانيّان. من أبناء طرابلس، ولدا وعاشا في حيّ «المنكوبين» تحديداً، على بعد أمتار فقط من مقهى «أبو عمران». هنا المقهى الأكثر شعبية في الجبل، الذي يرتاده الكبار والصغار، وغالبية من شبّان فقراء ومهمّشين. هناك حيث اختلطت الدماء والأشلاء مع فناجين القهوة والشاي.
الانتحاريّان من أبناء المنطقة التي فجّرا فيها، هما طه الخيال وبلال المرعيان، وهذا ليس تفصيلاً عابراً على الإطلاق. الجلّادان شاركا الضحايا الحياة في طرابلس، بكل معاناتها وفقرها وحرمانها، لسنوات طوال، مع فارق وحيد اسمه: الطائفة.
إنها الساعة السابعة والنصف مساءً. يدخل الانتحاري الأوّل المقهى، مزنّراً بحزام ناسف زنته 2 كيلوغرام، بحسب خبراء الجيش اللبناني، ويُفجّر جسده. صراخ وأشلاء ودماء ونراجيل متطايرة ونار ودخان. وكما العادة بعد كل انفجار، يركض الناس، من كل الاتجاهات، إلى مكان الحادث. عشرات وربما مئات من المحتشدين عند مدخل المقهى. منهم من يُساعد في إنقاذ الجرحى ومنهم من يقف متأملاً. لا تمرّ أكثر من 10 دقائق حتى يدوّي الانفجار الثاني. هذه المرّة ليس داخل المقهى، بل خارجها، وتحديداً بين المحتشدين. لقد فعلها الانتحاريّ الثاني. حزام ناسف أيضاً بزنة 2 كيلوغرام. بعض الذين أصيبوا بجروح طفيفة، نقلوا لـ»الأخبار» ما شاهدوه، وتحدثّوا عن «نخوة» لولاها لكان عدد الشهداء فاق الـ 9 والجرحى أكثر. ما الذي حصل؟ إنه الشهيد عيسى خضور، أبو علي، الذي سمع الانتحاري الثاني يُردد «الله أكبر» مع حركة مشبوهة، فما كان منه إلا أن احتضنه بقوّة وغطّاه بجسده... ويدوّي الانفجار. حمى بذلك الواقفين من الشظايا والكرات المعدنية المنطلقة من الحزام.
المشنوق: أهالي جبل محسن نجحوا في الاختبار عن جدارة، ولم يصدر عنهم إلا العقلانية

علا الصراخ مجدداً، وصيحات الاستغاثة، وضجيج فوضى الإنقاذ، خارج المقهى هذه المرّة. المكان «طريق السّكة» بين مقهى «أبو عمران» ومقهى «المجذوب». عندما وصل الصليب الأحمر، كان أهالي المنطقة قد نقلوا أكثر الجرحى، الذين فاق عددهم الخمسين، بسياراتهم الخاصة إلى مستشفى «سيدة زغرتا». ليس جديداً أن أهالي جبل محسن يخشون نقل جرحاهم إلى مستشفيات طرابلس، مدينتهم، خوفاً من الإجهاز عليهم من قبل الغوغاء. أهل طرابلس ليسوا كذلك، ولكن بينهم من هم كذلك، ولهؤلاء سطوة، وقد فعلوها سابقاً في مرحلة جولات القتال العديدة بين التبانة وجبل محسن. ألم فوق ألم. لا يوجد في الجبل مستشفى مجهّز لعلاج الجرحى، فقط يوجد مستوصف، لعلاج الجروح الطفيفة. فقط الشهداء التسعة نُقلوا إلى المستشفى الحكومي في المدينة: «هؤلاء شهداء، فارقوا الحياة، ولا يمكن لأحد أن يقتلهم مرّة ثانية». هكذا يتحدّث سليمان علي، الشاهد على ما حصل، والذي فقد أحد رفاقه في «المجزرة».
ولأن شهداء التفجير ليسوا أرقاماً، ها هي أسماؤهم: عيسى خضّور، يوسف عبدو (دركي)، علي إبراهيم (15 عاماً)، محمد سليمان، علي عيسى، محمود حسن، محمد برو، حسن إبراهيم ويحيى عبد الكريم. أما الجرحى فبينهم حالات حرجة، وحالات أخرى خطرة، فضلاً عن حالات بتر الأطراف. ليس تفصيلاً أن يكون الشهيد خضّور، الذي انقضّ على الانتحاري الثاني، أحد الذين قاوموا الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982. كان آنذاك عضواً في أحد التنظيمات اليساريّة. قاتل الإسرائيلي ونجا من الموت، لكن، وبعد 33 عاماً، جاءه «أرعن» وقتله.
يُسجّل لأهالي جبل محسن، وللجهات المعنيّة هناك، وتحديداً الحزب العربي الديموقراطي، أنهم «لم ينجروا إلى الفتنة». هذه اللازمة ستتكرر كثيراً على ألسنة رؤساء ووزراء وشخصيات سياسية. لقد نجحوا في ذلك فعلاً. لم تُطلق رصاصة واحدة في الهواء، غضباً، على غرار العادة اللبنانيّة المتفشيّة أخيراً. حتى في التشييع المهيب، ظهر أمس، لم يحصل إطلاق نار. نجح المسؤول في الحزب عبد اللطيف صالح، كما يقول، في ضبط غضب الشباب في الشارع. من جهته، قال علي فضة، المسؤول في الحزب: «هناك مسؤولية، نطالب دار الفتوى بأن تكون منابر المساجد منابر مسؤولة، كما نطالب سياسيي طرابلس بخطاب وطني جامع، ونحن لن ننجر وراء الفتنة». في المقابل، كان لافتاً غياب نواب طرابلس، وشخصياتها السياسية البارزة، عن تشييع الشهداء. هذه الشكليات ليست عابرة عند «المجلس الإسلامي العلوي». كان أحمد عاصي، رئيس مكتب المجلس، يأسف سابقاً لـ»غياب اللياقة» في التعامل مع مجلس الطائفة. لكنه كان يظن بأن عُرف «قلة الاحترام» سوف يُكسر، هذه المرّة، أمام هول المجزرة، إلا أن شيئاً لم يتغيّر... «كأننا لسنا من أبناء هذا الوطن، الذي نرفع علمه ونحمل هويته». يُصلي رئيس المجلس الشيخ أسد عاصي على جثامين الشهداء، الذين لفّت نعوشهم بالعلم اللبناني، ويُنقلون إلى المقبرة التي زاد عدد أضرحتها على نحو لافت خلال السنوات الأخيرة. ربما تكون مسيرة التشييع أكبر حشد يشهده جبل محسن في تاريخه. وعلى وقع هتافات الصمود والتحدّي، كانت النسوة يزغردن وينثرن الأرُزّ من شرفات الأبنية المغطى بعضها بكابلات الكهرباء العشوائية التي تكاد تحجب رؤية الأبنية «المخردقة» بالرصاص.
أن يزور وزير الداخلية جبل محسن، فهذا بالنسبة إلى الأهالي بمثابة «فَتح». يصل الوزير نهاد المشنوق إلى مكان الانفجار، يدردش مع عبد اللطيف صالح. يُخرج التفجير من إطار مذهبي إلى إطار استهداف للوطن. ثم يقول: «مؤسسة الحريري ستتولى إعادة الإعمار والتعويض على المتضررين في جبل محسن من جراء التفجير الإرهابي الذي وقع». يُدرك المشنوق أن أهالي جبل محسن «نجحوا في الاختبار» عن جدارة، ولم يصدر عنهم إلا «عقلانية» لافتة، ولهذا قال من هناك: «إن أهل طرابلس أثبتوا أنهم أهل دولة وشرعية».
من جهته، صرّح الشيخ عاصي، أمس، قائلاً: «لن ننجر وراء الفتنة، فمشروع الإرهابيين كبير، ولكن نحن أكبر من مشروعهم بإرادتنا وصمودنا. أما الشهداء الذين سقطوا فهم أسوة بمن سقط في كل الطوائف. سندعم الجيش، الذي قدم الكثير من التضحيات، وسنظل ندعو إلى ضبط النفس وعدم حمل البندقية والانجرار وراء الفتنة». انتهى التشييع، وعاد الناس من المقبرة وتفرقوا، باسثتناء بعض النسوة المتشحات بالسواد، ظللن واقفات عند الأضرحة. في الخارج كان السؤال ــ الهاجس، عند أكثر من شخص، برأيك يا تُرى هذه حادثة عابرة أم أننا أمام مسلسل تفجيرات؟ الناس في الجبل قلقون، محتسبون صابرون، لكنهم قلقون، ذاك القلق الذي يوحي بأن خلفه أكوام من الغضب.