«لستُ شارلي إيبدو». توقّع الفرنسيون أن يأتي هذا التعليق ربما من بعض الأقلام العربية، لكنّه أتاهم من «أشقائهم» الأميركيين والبريطانيين بُعيد حادثة قتل صحافيي «شارلي إيبدو». بعض أبرز المؤسسات الإعلامية في الولايات المتحدة وبريطانيا رفضت نشر رسومات «شارلي» الكاريكاتورية التي تتناول النبي محمد، وأخرى نشرتها مموّهة، فاختفى شكلها ومضمونها! وإذا اعتُبر قرار نشر الرسومات أو التمنّع عن ذلك خياراً تحريرياً يخصّ كل مؤسسة، فإنّ المفاجأة جاءت في ما قيل في تبرير عدم نشرها.

مثلاً، فإنّ «نيويورك تايمز» الأميركية التي لم تنشر الرسومات الفرنسية، قالت على لسان مدير تحريرها دين باكيت إنّ الرسومات تُعدّ «إهانة متعمّدة وغير مجدية للمنتمين إلى مجموعات دينية». وفي الصحيفة نفسها، كتب دايفد بروكس، أحد معلّقيها الثابتين، مقالاً بعنوان «لستُ شارلي إيبدو»، منتقداً سلوك الصحيفة الفرنسية «العدائي»، ومقسّماً «المجتمعات السليمة» إلى «العلماء الحكماء الذين يجب الإنصات إلى ما يقولون باحترام، وإلى الساخرين الذين يجب الاستماع إليهم باحترام جزئي، والعنصريين والمعادين للسامية الذين لا يجب أن نوليهم أي احترام».
«مَن يريد أن يستمع إليه الناس بانتباه يجب أن يستحق ذلك من خلال التصرف بشكل حسن»، رأى بروكس،
«بي. بي. سي.» تعيد النظر
في قضية منعها تصوير النبي


مضيفاً أنّ تضامن الأميركيين مع الصحيفة الفرنسية بوضع شعار «أنا شارلي» يعتبر «غير دقيق» لأنّ «معظمنا لا ينخرط في السخرية التي تتعمّد الإهانة وتتخصص فيها المجلة الفرنسية». بروكس انتقد أيضاً وضع قيود على حرية التعبير في الولايات المتحدة نفسها.
إلى «نيويورك تايمز»، انضمت «نيويورك دايلي نيوز» التي نشرت الرسومات مموّهة، وشبكة «سي. أن. أن.» التي أرسلت مذكرة داخلية إلى موظفيها تبلغهم فيها بأنّها «لن تنشر صوراً مهينة»، كما شبكة «أن. بي. سي» التي تمنّعت عن عرض الرسومات. وكالتا «رويترز» و«أسوشييتد برس» قرّرتا عدم النشر أيضاً.
وفي بريطانيا، رفضت معظم الصحف الوطنية نشر رسوم «شارلي» التي تتناول النبي، وذكّرت صحيفتا «إندبندنت» و«غادريان» بوجوب «الإبقاء على التوازن في الأداء الصحافي، وعدم الاضطرار إلى تغيير السلوك المعتاد» الذي انتُهج منذ عام 2005 مع التمنّع حينها عن نشر الرسومات الدنماركية. وشدّدت تلك الصحف على التضامن المادي (التبرّع بأموال) والمعنوي مع «شارلي»، وعلى «عدم الرضوخ لرغبات المعتدين»، لأنّ «الصراع الحقيقي هو بين حرية التعبير وعدد قليل من الجهاديين المجرمين».
من جهتها، أعلنت صحيفة «يلاندس بوستن» الدنماركية التي نشرت عام 2005 الرسومات الدنماركية أنّها لن تنشر رسومات «شارلي حرصاً على سلامة موظفيها». «ندرك تماماً أنّ في ذلك رضوخاً للعنف والتخويف»، أوردت الصحيفة في افتتاحيتها الحزينة حول الموضوع.
أما «هيئة الإذاعة البريطانية» فعرضت في أحد تقاريرها رسماً كاريكاتورياً من «شارلي إيبدو» عن النبي محمد، ثم واجهت انتقادات داخلية ذكّرتها بدفتر التوجيهات التحريرية الخاص بالمؤسسة الذي «يمنع عرض أي صورة أو شكل للنبي».
لكن «بي. بي. سي.» أصدرت بياناً تشير فيه إلى أنّ تلك التوجيهات «أصبحت قديمة»، وهم «في صدد مراجعتها».
بعض ردود الفعل الصحافية الفردية جاءت صادمة. كتب طوني باربير في الـ«فايننشال تايمز» في يوم الاعتداء أنّ أسلوب تحرير «شارلي إيبدو» كان في معظم الأحيان «غير مسؤول وأحمق». لكن سرعان ما سُحب المقال، ونشرت الصحيفة نسخة معدّلة منه على موقعها، أزيلت منها تلك العبارات.
قد يخضع التمنّع عن نشر الرسومات الكاريكاتورية لدى بعض المؤسسات الإعلامية الغربية، التي تنادي بتقديس حرية التعبير، لحسابات داخلية وسياسات تحريرية خاصة، لكن بعض الأعذار التبريرية كانت بمثابة اعتراف للمعتدين وحاضنيهم بأنّهم على حق، ليس في القتل لكن في طريقة التفكير.