باريس | صبيحة السابع من كانون الثاني (يناير) ستصير جرحاً في ذاكرة الصحافة الفرنسية بعد العمل الإرهابي الذي ذهب ضحيته 12 شخصاً من بينهم أربعة من أبرز وألمع رسّامي الصحيفة الأسبوعية الساخرة. وفق ما روت موظّفة في المجلة لوكالة «فرانس برس»، فإنّ رجلين يحملان رشاش كلاشنيكوف وقاذفة صواريخ اقتحما مكاتب «شارلي ايبدو» الواقعة في مبنى يضم شركات أخرى في شارع نيكولا ـ ابير الصغير في الدائرة الـ11 في باريس وأطلقا وابلاً من الرصاص على صحافيي المجلة، قبل أن يدخلا في مواجهات مع رجال الشرطة، خلال محاولتهما الفرار، ليرديا اثنين.
الحصيلة الأولية هي مقتل 12 شخصاً من بينهم رئيس التحرير ستيفان شاربونييه المعروف بـ«شارب». الملفت أنّ «شارب» كان قد نشر رسمة قبل أسبوع كانت كالنبوءة، إذ مثّلت جهادياً يقول «لا أعمال إرهابية في فرنسا؟ انتظر، نملك وقتاً إلى نهاية يناير لنقدم تهانينا» بالعام الجديد. كذلك جاء الاعتداء بعد ساعات فقط على نشر الصحيفة رسمة لزعيم «داعش» أبو بكر البغدادي معايداً بالعام الجديد، ومتمنياً للفرنسيين «دوام العافية والصحة»!
وكانت التهانئ دموية وبغيضة. قائمة ضحايا الحادث ضمت أيضاً رسامي الجريدة جان كابو، وتينيوس، وولينسكي. حادث الرعب جعل العاملين في الصحيفة يحتمون بأسطح بناية المقر، قبل وصول رجال الشرطة، بينما صوّرت كاميرا شهود عيان عنصرين إرهابيين يجهزان بدم بارد على شرطي، ثم يتبادلان إطلاق النار مع رجال الشرطة، بينما ردد واحد منهما عبارة «الله أكبر». شهادات من عين المكان تحدثت عن أن المهاجمين ردّدا «انتقمنا للرسول». ويبدو من لكنة الإرهابيين في التسجيلات التي سربت على الإنترنت أنهما يتقنان اللغة الفرنسية. شهادات العاملين في الجريدة تؤكد أنّ منفذي العمل الإرهابي الذين تبيّن أنهم ثلاثة وفق وزير الداخلية الفرنسية، كانوا على معرفة دقيقة بطريقة عمل الجريدة. أحد الصحافيين أكد في تصريحات إلى جريدة «لوموند» أنّهم «كانوا على دراية بما يدور في كواليس الجريدة، وأن اجتماع فريق التحرير يكون كل أربعاء عند الساعة العاشرة صباحاً.الساخر المعروف منذ الثورة الفرنسية
في المقابل، فإن مقر الصحيفة يكون فارغاً في نهاية الأسبوع».
ويبدو أن منفذي العمل الإرهابي لم يكونوا على دراية بما يقع في مقرها فحسب، بل تمتعوا بتدريب عسكري دقيق، فالطريقة التي أردوا بها رجل شرطة في الشارع بدم بارد، تظهر أنهم خضعوا لتدريب على الأسلحة، كذلك أفلحوا في سرقة سيارة بعد تنفيذ العمل الإرهابي، والفرار على متنها إلى وجهة مجهولة. وهو ما يؤكده مسؤولو الشرطة القضائية الفرنسية بحديثهم «عن مذبحة من تنفيذ كوموندوس». الأجهزة الأمنية طوّقت مقر الجريدة التي سبق أن تعرضت لهجمات مختلفة. لكن عملية اليوم أدخلت فرنسا في حالة من الصدمة. فهي المرة الأولى التي تتعرض فيها وسيلة إعلامية لهجمة بهذه الشراسة. وعلى الرغم من تاريخ «شارلي إيبدو» الطويل في انتقاد الجماعات الدينية والطوائف، إلا أنّها المرة الأولى التي تتعرض فيها لرد فعل بهذه البشاعة. تناقضات القدر أرادت أن يتزامن فيه الاعتداء الإرهابي مع العدد الأخير الذي خصصت الصحيفة غلافه للسخرية من الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك الذي خرجت روايته «استسلام» إلى المكتبات. تحكي الرواية قصة متخيلة في المستقبل القريب، حبكتها سيطرة حزب إسلامي على الحكم في فرنسا وأسلمة البلد. وبينما أعلنت الجمعيات الإسلامية الكبرى في فرنسا إدانتها الشديدة للحادث الإرهابي، تتزايد المخاوف لدى مسلمي فرنسا من أن يضيف هذا الحادث الإرهابي جرعة أخرى إلى الخطاب المعادي لهم في الجمهورية.

مسار صاخب

لطالما اشتهرت «شارلي إيبدو» بمضمونها وخطابها الاستفزازي، حتى أشعلت جدلاً كبيراً في صفوف الرأي العام الفرنسي خيّم عليه سؤال أساسي: هل إنّ طريقة التعبير الاستفزازية والاستعراضية هذه تخدم أم تسيء لحرية التعبير والديمقراطية؟ الصحيفة المعروفة التي أعادت تراث الكاريكاتور الساخر المعروف منذ الثورة الفرنسية، هي منبر يساري اشتهرت بطابعها الساخر والمناوش دوماً لكل الأديان، حتى وصفت بأنّها أكثر استفزازاً من نظيرتها «لو كانار أنشينيه» التي اختصت في كشف ونشر العديد من التقارير السرية. تأسست «شارلي إيبدو» في عام 1969 بإدارة فرنسوا كافانا حتى إقفالها عام 1981. بعدها، استأنفت الصدور عام 1992 بإدارة فيليب فال حتى 2009، قبل أن يتولى «شارب» دفة القيادة منذ عام 2012. تعرضت الصحيفة لضغوط كثيرة. في عام 2006، أعادت نشر الرسوم الدنماركية التي أشعلت العالم الإسلامي. كذلك نشرت في آذار (مارس) 2006 «مانيفستو الـ12» الذي كان أشبه بنداء دعت فيه إلى «محاربة الإسلاموية بوصفها توتاليتارية دينية تهدد الديمقراطية بعد الفاشية والنازية والستالينية». نداء رفضته «الرابطة الفرنسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن» لأنّه «يؤبلس الإسلام». وفي تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2011، أصدرت الصحيفة عدداً خاصاً تحت عنوان «شريعة إيبدو»، أعلنت فيه النبي محمد «رئيس تحريرها الشرفي»، ناشرة رسمة ساخرة مع تعليق: «100 جلدة إن لم تموتوا من الضحك». أثارت الرسمة والعدد موجة من الاحتجاجات أدّت إلى إحراق مكاتبها وتعرض موقعها على الإنترنت للقرصنة. يومها، علّق «شارب» على الحادث: «أردنا التعليق على إعلان الشريعة في ليبيا وانتصار حركة «النهضة» في تونس» مضيفاً: «نتساءل ما الذي علينا فعله كي لا نغضب أحداً».
وفي 19 أيلول (سبتمبر) 2012، قررت «شارلي إيبدو» نشر رسوم كاريكاتورية للنبي بعد مرور أسبوع على اندلاع موجة احتجاجات ضد الفيلم الأميركي المسيء «براءة المسلمين» (13/9/2012). مقابل هذا المسار الصاخب الذي اتبعته الصحيفة، تعرضت أيضاً للملاحقة القضائية عام 2012 بعدما رفعت جمعيات مناهضة للعنصرية دعوى عليها بتهمة الحث على الكراهية وتعزيز الإسلاموفوبيا في فرنسا. إلا أن قرار المحكمة برّأها، وكان مبرره حينها أنّ الجريدة تنتقد جماعات معينة، لا المسلمين بشكل مطلق. الجريدة استمرت في مواقفها الساخرة من الأديان، ورأت أن سخريتها من المسلمين تدخل في إطار حرية التعبير، بما أنها تخصص لكل جماعة وفرد جزءاً من سخريتها. لكنها حرية كلفتها غالياً جداً. وفي أول تعليق له على الاعتداء، صرّح مدير تحرير «شارلي إيبدو» جيرار بيار، الموجود حالياً في لندن، لصحيفة «لو موند»: «أنا منهار ومغتاظ في الوقت عينه. أجد بديهياً ومهماً أن تتضامن كل الوسائل الإعلامية الفرنسية معنا هذه المرة، وأن لا يخرج أحدهم ليتّهمنا بأننا زمرة علمانيين متعصّبين أو استفزازيين».