عندما أطلق رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس مفردته الشهيرة «أبو رخوصة»، كان يحاول الانقضاض على أي فكرة تسوّق لوسط بيروت على أنه حيّز عام لكل الفئات الاجتماعية، وقصد أن هذه البقعة مخصصة للأثرياء حصراً. لا ينمّ هذا التوصيف عن حقد طبقي فحسب، بل هو أيضا نتاج نمط اقتصادي ظهرت نتائجه قبل 57 سنة، على يد بعثة «إيرفد» أيام الرئيس فؤاد شهاب. يومها خلصت البعثة إلى نتيجة مفادها أن هناك فئة تبلغ نسبتها 4% من السكان، وهم الأثرياء، أو الأعلى دخلاً الذين يستحوذون على 32% من الدخل الوطني. واليوم لم يتغير هذا النمط، بل زاد تركّزه. وتكفي الاشارة إلى ان التقديرات الحالية (غير الرسمية) تفيد ان اقل من 1% من الحسابات المصرفية فيها أكثر من 50% من مجمل الودائع في المصارف اللبنانية.
تُعدّ مبيعات السيارات في لبنان مؤشرا مهمّا في هذا السياق. الإحصاءات الصادرة عن جمعية مستوردي السيارات الجديدة تشير إلى نموّ هائل في مبيعات السيارات الفاخرة والأغلى ثمناً، مقارنة بتراجع مبيعات السيارات الصغيرة والأقل ثمناً. فقد تبيّن أنه في الأشهر الـ11 الأولى من عام 2015، زادت مبيعات سيارة «فراري» بنسبة 833%، وسيارات «أستون مارتن» بنسبة 400%، وسيارات بورش بنسبة 12%، وسيارات جاغوار بنسبة 35.2%، وسيارات لامبورغيني بنسبة 200%.
زادت مبيعات سيارة «فراري» بنسبة 833%

عدد السيارات المبيعة من هذه الماركات يتجاوز 900 سيارة مقارنة بـ 38 ألف سيارة مبيعة في الفترة نفسها. غالبية هذه السيارات قد لا يقل سعر الواحدة منها عن 300 ألف دولار أو أكثر من ذلك. وإذا أخذنا الأوضاع والظروف الأمنية والسياسية والاجتماعية في لبنان، يتبيّن بوضوح أن الفئة الوحيدة التي يمكنها شراء سيارات كهذه هي الأعلى دخلاً في لبنان، أي فئة الأثرياء. والأسوأ من ذلك، أن هذه الفئة تشتري هذا النوع من السيارات في ظل أسوأ موجة سلبية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهي لا تكترث لكل هذه الأوضاع، بل تواصل نمط استهلاكها كما لو ان الامور على طبيعتها. يمكن تفسير هذه اللامبالاة بأنها ناجمة عن توافر كميات كبيرة من الأموال القابلة للاستهلاك بيد هذه القلّة، أو أنها نتاج معرفة مسبقة بأن الأوضاع والظروف الحالية قد تكون سبباً في زيادة تركّز الثروة مستقبلاً، وبالتالي فإن التبذير متاح، كما يحصل عادة بعد كل الحروب والأزمات. في كلتا الحالتين، فإن نسبة السيارات الفخمة المبيعة توازي 2.4% من مجمل مبيعات السيارات، وهي تعبّر عن حجم طبقة الأثرياء في لبنان.
العلاقة العضوية بين السيارات والطبقات تعيد الخبير الاقتصادي كمال حمدان بالذاكرة إلى أيام كانت ماركة «جاغوار» تعبّر عن القدرة الشرائية للأثرياء، فيما اليوم أصبحت ماركة «فراري» أو «لامبورغيني» تمثّلهم، لكن اليوم يمكن تقسيم السيارات في لبنان بحسب كلفتها إلى ثلاث فئات: السيارات الأغلى ثمناً التي تعد نوعاً من الكماليات، والسيارات التي تعدّ ملائمة للطبقات المتوسطة، وهي تجمع ما بين الحد الأدنى من الرفاهية والعملانية، والسيارات الأرخص ثمناً التي تستخدمها الطبقات المتوسطة وما دون. ولا يجوز إغفال أنه في ظل غياب تنظيم النقل العام والخاص في لبنان، فإن امتلاك السيارة حاجة أساسية لانتقال الأسر والأفراد، وهو ما يجعلها مؤشراً اجتماعياً أيضاً. ففي الستينات أيام بعثة إيرفد، كان امتلاك سيارة أمراً صعباً للطبقة «المتوسطة ــ الدنيا» وما دونها، إلا أن التطوّر اللاحق بهذا القطاع، والتنافس التجاري بين الصانعين، أدّيا إلى إنتاج سيارات رخيصة بأسعار تتناسب مع قدرات شرائية مختلفة تبدأ بالأكثر قدرة، ثم الأدنى منها نزولاً إلى الفقراء. غالبية السيارات المبيعة في السوق المحلية لا يتجاوز سعرها 20 ألف دولار وهي مقسّطة على فترات زمنية أقلّها ثلاث سنوات.
على أي حال، يُعتمد أكثر من معيار لمعرفة الخانة الطبقية التي تقع فيها السيارة، فهناك السيارات الرباعية الدفع، وهي أغلى من السيارات الثنائية الدفع، وهناك الماركة وشهرتها. واستناداً إلى ذلك، فإن السيارات التي تعدّ ضمن القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة وما فوق، هي من ماركات «مرسيدس»، «فولفو»، «لاند روفر» «انفينيتي»، «تويوتا» «بي أم دبليو»... وهذه الماركات أيضاً سجّلت زيادة في أعداد السيارات المبيعة تراوح بين 11% و82%، علماً بأن أسباب هذه الزيادة لا تتعلق حصراً بقدرة هذه الطبقة على الإنفاق، بل تمتد أيضا إلى التنافس التجاري بين صانعي السيارات، وتنافسها مع السيارات المستعملة أيضاً، لكن حصّة هذه الماركات من المبيعات تصل إلى 32%.
أما بالنسبة إلى السيارات التي قد تكون مخصصة لفئات اجتماعية أدنى، فهناك «كيا»، «هيونداي»، «رينو»، «بيجو»، «نيسان»، «سكودا»... وهذه الماركات تراجعت مبيعاتها في الأشهر الـ11 الأولى من السنة الجارية. وقد راوحت نسبة التراجع بين 13% و54%، وقد يصل عدد السيارات المبيعة ضمن هذه الفئة إلى نحو 25 ألف سيارة، أي ما يوازي 65% من مجمل المبيعات.
وبحسب حمدان، فإن «الاستهلاك هو القاطرة الاساسية للنموّ، وهو في بنيته انعكاس لواقع توزّع القوّة الشرائية للمستهلكين. هذا يعني أن مال الأثرياء ممعن في استهلاك هذا النوع من الكماليات، فيما تجد الطبقة المتوسطة نفسها عاجزة عن الحفاظ على قدرتها الشرائية الحالية، بل هي في اتجاه متدهور. المقارنة بين مبيعات السيارات والطبقات الاجتماعية أمر ممكن، لأنه يلاحظ أن نسبة السيارات الفخمة توازي 2.4% من مجموع المبيعات، وهذا يدلّ على زيادة تركّز الثروة، وهذا الأمر له جذور بعيدة في المجتمع اللبناني».
مبيعات السيارات هي مجرّد مؤشّر واحد من بين مؤشرات عديدة على تركّز الثروة. فعلى سبيل المثال هناك مؤشّر توزّع الحسابات المصرفية بحسب الشرائح، الذي أظهر أن 2% من الحسابات المصرفية فيها أكثر من 59% من الودائع، في مقابل 98% من الحسابات التي فيها أقل من 40% من الودائع.
في ظل استمرار هذا النمط الاقتصادي ونتائجه في توسيع الهوّة بين فئات الدخل وفئات المستهلكين، قد نشهد يوماً ما موقفاً من نقولا شماس، يدعو الى منع دخول السيارات الرخيصة الثمن التي يملكها الفقراء وأصحاب الطبقة المتوسطة إلى وسط بيروت، الذي يجب أن يبقى مخصصاً لسيارات الفراري واللامبورغيني والجاغوار. اليوم يقتصر الأمر على الحركة التجارية والاقتصادية في الوسط، وقد تتطلب رمزية الوسط تطوراً في وسائل التمييز بين السيارات، وربما الناس بحسب ماركات لباسهم مثلاً... أما دواعي هذا الأمر، فستكون الحفاظ على هرمية الطبقات في هذا النمط الاقتصادي وإبقاء الطبقات المتوسطة والفقيرة مجرّد أدوات مدرّة للثروة في اتجاه واحد.





مفارقة «الحاجة» و«النقّ»
المثير للاستغراب أن طبقة الأثرياء من رجال الأعمال وأصحاب الوكالات الحصرية والتجارية ومؤسسات مصرفية ومالية وسياحية وتجار العقارات وغيرهم، يواظبون على «النق» تعبيراً عن قلقهم من تحوّل الأرباح إلى خسائر ويستعملون هذا الأمر مبرّراً لصرف العمال، لكنهم يواصلون حياتهم الاستهلاكية بصورة أكثر فظاظة. أما على الضفة الثانية، تنتقل الطبقة المتوسطة والأدنى منها من حالة «اختلال التوازن» إلى إنفاق المدخرات وكل قرش أبيض لديهم. يظهر هذا الإنفاق من خلال زيادة التصفية المبكرة لتعويض نهاية الخدمة، أو من خلال بيع أصول غير منقولة كالذهب والعقارات وسواها، أو مدّ اليد على أموال مجمعة في حساب مصرفي أو بوليصة تأمين... الهدف من كل ذلك الصمود في مواجهة ممارسات أصحاب العمل.