لم يبتسم حظ رئاسة الحكومة للرئيس عمر كرامي مقدار ما ابتسم لكثيرين حلوا فيها على وفرة ما كابد بعضهم في ما بعد من المنصب. غادره ثم عاد إليه. في العقود الخمسة الأخيرة على الأقل، ابتسمت رئاسة الحكومة للرؤساء تقي الدين الصلح ورشيد الصلح وسليم الحص وشفيق الوزان ورفيق الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام. لم يبتسم الحظ للرؤساء أمين الحافظ ونورالدين الرفاعي وعمر كرامي الذين شهدوا إسقاط حكوماتهم في مجلس النواب أو في الشارع، فإذا هم يُرغمون على التنحي. بينهم مَن لم يُعطَ أن يحكم كالأولين، وبينهم مَن حكم فعلاً ثم أُريد التخلص منه ككرامي.
لم يأتِ أي من هؤلاء وأولئك في نعش صنع قدره في الوصول إلى رئاسة الحكومة كالرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري، في نعش الحريري الأب.
لحظة وفاة كرامي، في اليوم الأول من السنة الجديدة، لم يُروَ من سيرته السياسية سوى أن حكومتين ترأسهما سقطتا في الشارع. كان الرجل في ظل شقيقه الرئيس رشيد كرامي حتى اغتياله عام 1987، فلم يرث منه بداية سوى زعامة البيت وطرابلس. لم يسعه الوصول إلى السلطة، للمرة الأولى، إلا بعد سنتين ونصف سنة بتعيينه وزيراً في حكومة الرئيس سليم الحص، الأولى بعد إقرار تسوية الطائف عام 1989. بعد ذاك عُيّن نائباً مراراً وترأس الحكومة عامي 1990 و2004. الأولى لسنة ونصف، والثانية لثلاثة أشهر ونصف.
اختصرت استقالة حكومتيه مغزى المرحلة التالية التي كانت تنتظر البلاد على أبواب انتخابات 1992 في الأولى، وما بعد اغتيال الحريري الأب في الثانية. افتقر الرجل إلى أقوى ما كان في شقيقه، وهو برودة الأعصاب وإرادة المواجهة بقوة، وتحويل سلبية الموقف إلى إيجابية الدور، وقد خبرها كلها في حكومات 1958 و1968 و1975، وصولاً إلى آخرها عام 1984. استقال منها وبقي مرشحاً لها، ولم يُعطِ خصومه فرصة التخلص منه إلا عندما اغتالوه. في استقالته الأولى اكتشف عمر كرامي أن دمشق هي مَن يريد التخلص منه، وفي استقالته الثانية خشي من تأليب طائفته عليه وتحميله تغطية اغتيال الحريري.
حكومة كرامي وضعت للمرة الأولى اتفاق الطائف
موضع التطبيق





على أن ما لا يُذكر من الحكومة الأولى للرئيس الراحل بين كانون الأول 1990 وأيار 1992، أنها الأولى التي وضعت اتفاق الطائف موضع التنفيذ الفعلي، بعد دمج الإصلاحات السياسية في الدستور قبل ثلاثة أشهر في حكومة الحص. الأصح أيضاً أنها الحكومة الأولى في ظل احكام اتفاق الطائف بعدما صار إلى تأليف حكومة الحص عام 1989 تبعاً لآلية ما قبل الاتفاق:
1 ــ في حكومة 1990 اعتمدت للمرة الأولى الاستشارات النيابية الملزمة عملاً بالمادة 53 من الدستور. اختارت الغالبية النيابية ــ لا رئيس الجمهورية ــ الرئيس المكلف وسمته للرئيس الياس هراوي، فأطلع رئيس مجلس النواب حسين الحسيني على الحصيلة قبل أن يصدر بيان التكليف.
2 ــ كانت حكومة الاتحاد الوطني الأولى تبعاً للمواصفات التي حددها اتفاق الطائف، تجمع الأفرقاء جميعاً بلا استثناء. يومذاك كان الرئيس ميشال عون، في السفارة الفرنسية، الوحيد خارجها، بينما اختار حزب الله منذ إبرام اتفاق الطائف عدم المشاركة في أيٍّ من حكوماته.
3 ــ كانت أول مَن أرسى، أو حاولت، مصالحة وطنية بين أفرقاء كان من المتعذر حتى ذلك الوقت جمعهم معاً. كان على دمشق بذل جهود مضنية لإقناع رئيس الحكومة أول الأمر بتوزير قائد القوات اللبنانية آنذاك سمير جعجع المتهم باغتيال شقيقه الرئيس رشيد كرامي، وإقناع سليمان فرنجية بالموافقة على توزير جعجع المتهم بقتل والده ووالدته وشقيقته. إلا أن جعجع رفض المشاركة في الحكومة واستقال. ورغم حلول الوزير روجيه ديب محل جعجع، مثلت حكومة كرامي الامتحان الأول لما ظنّ المسيحيون أنهم انتزعوه في اتفاق الطائف، وهو الثلث المعطل في مجلس الوزراء، فإذا سوريا تحوز الثلثين.
4 ــ لأنها «حكومة الوفاق الوطني» على نحو ما حدده اتفاق الطائف، ممثلة الأفرقاء جميعاً، كان في صلب مهماتها بانقضاء سنتين على إقرار التعديلات الدستورية التحضير لإعادة انتشار القوات السورية في لبنان. تبدأ مهلة إعادة الانتشار في 20 أيلول 1992. قبل أربعة أشهر قلبت دمشق الأولويات رأساً على عقب، بافتعال المطالبة بإجراء انتخابات نيابية ووضع المهمة في عهدة حكومة جديدة. أسقطت حكومة كرامي في الشارع في 6 أيار كي تخلفها حكومة رشيد الصلح لوظيفة حصرية وقصيرة الأمد، هي إجراء انتخابات عامة بأي ثمن، تنشأ منها طبقة سياسية جديدة موالية لسوريا تعطل إعادة الانتشار.
5 ــ ملأت في 7 حزيران 1991 الشغور في مجلس النواب بتعيين 39 نائباً بعد رفع عدد أعضاء البرلمان وقتذاك إلى 108 نواب، كان أكثر من ثلثهم وزراء في الحكومة، بمَن فيهم رئيسها.
6 ــ وضعت مشروع قانون العفو العام الذي أقره مجلس النواب، واعتبر نافذاً منذ 26 آب 1991 عن الجرائم المرتكبة قبل 28 آذار 1991، وأعدت لإخراج عون من السفارة الفرنسية وإبعاده إلى منفاه القسري في جنوب فرنسا.
7 ــ أُنجزت معاهدة التعاون والأخوة والتنسيق بين لبنان وسوريا في 22 أيار 1991 في دمشق، واتفاق الدفاع والأمن مع سوريا في الأول من أيلول 1991. كلاهما أضحيا مرجعية العلاقات المميزة بين البلدين والمجلس الأعلى السوري ــ اللبناني.
مذ ذاك بات لاتفاق الطائف تفسير مختلف وتوقيت مغاير. صار حبراً على ورق بعدما وضعت حكومة كرامي للمرة الأولى، في معرض تنفيذه ككل، الحبر الأسود على ورق أبيض.