القاهرة | يصعب فهم نموذج مي زيادة (1886 ـــ 1941) والكيفية التي تحوّلت عبرها إلى «أيقونة» من دون الوعي بالسياق التاريخي الذي أظهرها على هذا النحو الفذ. لقد ارتبطت بعصر كامل يحلو لبعض المؤرخين تسميته بــ «عصر النهضة العربية». واجه العالم العربي يومها تحديات رئيسة تتعلق بالتعاطي مع تقدم الحضارة الغربية الذي تواكب مع موجة استعمارية ضخمة شملت أغلب بلدانه. وقفت نخبة ذلك الزمان أمام سؤال لا يزال قائماً حتى اليوم ألا وهو: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ تركزت الإجابة في مسارين: الأول ركّز على أصالة النموذج العربي/ الاسلامي، وقدرة تراثه العقلي على مجابهة التحدي ومواجهته. أما الثاني، ففضل استلهام النموذج الغربي ذاته ومحاكاته من دون إعلان قطيعة جذرية مع تراث الثقافة العربية لاعتبارات دينية في أغلبها.

لذلك، تحمّل الشوام الذين هاجروا إلى مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر العبء الرئيس في التوفيق بين المسارين، والانتقال بالثقافة العربية من العصور الوسطى الى العصر الحديث، بل القبول بـ «حداثة ملغومة». ساعدهم في ذلك أنّ الدولة المصرية ـــ بعد تجربة محمد علي وخليفته إسماعيل ـــ قد عرفت «المؤسسات» التي كانت رافعة لخطابات التحديث على تنوع مصادرها.
تعطي تجربة مي زيادة ومعاصريها المثال الأكبر على هذه المحاولة التي كانت محمولة على خطابات ربطت بين تحرر المرأة والتحرر من الاستعمار الغربي، ومن ثم فقد كان خطاب التقدم هو أيضاً خطاباً للتحرر الوطني.
من ناحية أخرى، استثمرت مي زيادة لحظتها التاريخية على نحو بالغ التميز من حيث تعاطيها الفعال مع التحولات التي أصابت بنية النص الأدبي في تلك اللحظة الفارقة. عقب ذيوع الصحافة وانتشارها كأداة مؤثرة في المجال العام، التقطت مي حساسية تغير اللغة الأدبية ذاتها.

تجربة كانت محمولة على
خطابات ربطت بين تحرر المرأة والتحرر من الاستعمار الغربي
بدأ النثر الفني رحلة صعوده التي ارتبطت بأصوات مؤثرة مثل جرجي زيدان، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني وخليل مطران. لذلك يمكن النظر إلى كتاباتها الأدبية على اختلافها كنصوص «عبر نوعية» قادرة على تجاوز مأزق التصنيف والتجرؤ على الأشكال الأدبية المكرسة، الى جانب السعي إلى خلق النص المغاير الطامح لـ «زحزحة» عمود الشعر العربي وتقاليده والذهاب إلى الإمكانيات التي أظهرها النثر في حضوره اليومي الذي أتاحته الصحافة. لذلك، ليس غريباً النظر إلى مي زيادة بوصفها رائدة لقصيدة النثر العربية في كتابها «ظلمات وأشعة» (1923) كما تؤمن صافي ناز كاظم بذلك.
لم يكن طموح مي في تجديد النوع الأدبي، بعيداً عن طموح آخر في تغيير النظرة إلى «النوع/ الجندر» حيث ربطت دوماً بين هويتها الأدبية وهويتها النسوية وواجهت سياقاً ثقافياً كان ذكورياً مئة في المئة. تبدو أنوثة مي واحدة من أكثر العلامات بروزاً في مسيرتها، إذ تحتفظ ذاكرة الفوتوغرافيا العربية بعشرات الصور التي تؤكد اختلافها عما كان شائعاً، وتفسر كيف أنّ أنوثتها كانت سبباً في تعلّق أغلب رجال عصرها بها من امثال مصطفى صادق الرافعي، سلامة موسى، وعباس العقاد وطه حسين على اختلاف درجات التعلق وأسبابه.
في المقابل، ذهبت هي إلى علاقة طهرانية تماماً تجلت في الخطابات التي ظلت تكتبها لجبران خليل جبران لمدة عشرين عاماً (1911/1931)، وعقب لقاء وحيد بينهما ظلّ أيضاً موضوعاً للتشكك، لكنه زاد من الحضور الأسطوري الذي لا يزال يلازم نصهما وسيرتهما معاً. لعلّ إصرارها على تفادي الولع، يفسر الهجمة الذكورية الشرسة التي تعرضت لها عقب وفاتها، إذ واجهت عملية إقصاء وتشويه. لا فارق هنا بين سلوك مصطفى صادق الرافعي أو سلامة موسى الذي ذكر في كتابه «تربية سلامة موسى» أنّها كانت تتبول وتتبرز في بيتها أواخر سنوات عمرها. هذه أيضاً واحدة من مفارقات تجلي مي التي كانت مرغوبة من رجال جاء معظمهم من أصول ريفية، لكنهم سعوا لتجاوز أصولهم. وبفضل الاحتكاك بالغرب، حلّت لهم مي معضلة العلاقة مع الغرب. رغم أصولها الشرقية، أجادت مي لغات عدة وكانت أقرب ما تكون إلى «برج بابل» متحرك سعى في تجلياته المختلفة لخلق خطاب ابداعي مستقل واجه الأبوة المحلية وطغيان الأبوية الاستعمارية كذلك. وكانت كذلك مثل أغلب كاتبات عصرها طامحة لإعادة تشكيل ثقافة هذه الطبقة اجتماعياً على نحو ربما يفسر مغامرتها في الالتحاق بالجامعة المصرية عقب تأسيسها عام 1908. كما يفسر كون صالونها الذي أقامته في بيتها في «شارع المناخ» (عدلي في القاهرة) هو أول صالون أدبي مختلط في القاهرة. بحكم أصولها اللبنانية وتحفيز والدها وديانتها، كانت مي أكثر حرية في التجريب الأدبي مقارنة بما كان يطرح آنذاك في صالونات ظلّت مغلقة على النساء. لعل آخر العلامات التي تزكي النموذج الأسطوري لتجربة مي زيادة، ما جاء مرتبطاً بمسألة اتهامها بالمرض العقلي والظروف التي أحاطت بها وجعلتها ضمنياً «ضحية» مؤامرة وفرت للأسطورة عناصر جذب يصعب تفاديها بسبب عمقها الميلودرامي الذي وصم سيرتها بـ «مأساة النبوغ» بحسب تعبير كاتبة سيرتها سلمى الكزبري.