كانت فترة الستينات فترة تجديد إبداعي كبير عربياً وعراقياً، ولم يكن تجديد أبناء تلك الفترة الذين سيسميهم النقاد "جيل الستينات" مقتصراً على الشعر بل وعلى القصة القصيرة والفن التشكيلي والمسرح. شاءت الصدف أن أُشرف على الصفحات الأدبية لأسبوعية «الأنباء الجديدة»، وكنت قادماً من مدينتي الناصرية، خارجاً من تجربة سياسية انتهت بالاعتقال عام 1963، هذه التجربة التي سأكتب عنها في روايتي «الوشم» التي ستكون أول رواية عراقية عن السجن السياسي (صدرت طبعتها الأولى عن «دار العودة» في لبنان 1972).
في صفحة «أدب وأدباء» بجريدة «الأنباء الجديدة»، ظهرت أسماء عديدة كانت نواة جيل الستينات، وجلهم كان ينشر للمرة الأولى، وقد وثّق هذا الشاعر الصديق سامي مهدي في كتابه «الموجة الصاخبة».
جئت إلى «الأنباء الجديدة» وأنا أحمل اسماً شبه معروف بعد أن نشرت في «الآداب» و«شعر» اللبنانيتين وصحف عراقية مثل يومية «المستقبل».
لم يكن أحدنا يحلم بطبع كتاب، كانت المسألة صعبة جداً تحتاج إلى جرأة كبيرة وليس الأمر كما هو عليه الآن، كان أحدنا يتهيب النشر ووضع اسمه على كتاب، ومع هذا شجعني الأصدقاء على جمع شتات قصصي القصيرة ونشرها في كتاب حمل اسم «السيف والسفينة» التي كتبت لها بنفسي تقديماً قصيراً تحت عنوان «هذا أنا وهذه قصصي» لتكون أول مجموعة قصصية لقاص من جيل الستينات وذلك عام 1966 وكما هو شأنها كان شأن ديوان «رماد الفجيعة» لسامي مهدي في العام نفسه الذي كان أول ديوان لشاعر عراقي ستيني.
كانت مواجهة القراء بقصة قصيرة أو قصيدة نثر أو مقال رأي أمراً ليس بالصعب، ولكن الصعب هو مواجهتهم بكتاب كامل له عنوان وعليه اسم الكاتب واسم المطبعة ــ لم تكن في العراق دور نشر وقتذاك. واسم المطبعة التي طبعت مجموعتي هو «مطبعة الجاحظ» التي سيعلق على اسمها الكاتب الفذ غسان كنفاني باسمه المستعار فارس فارس الذي كان يتخفّى وراءه عند كتابة تعاليقه على الكتب الجديدة في ملحق جريدة «الأنوار» اللبنانية بعد أن ربط بين غلافها المنجز بالأسود والأبيض واسم الجاحظ وما أشيع عن دمامة شكله.
كانت الكتب التي تصدر في العراق توزعها «مكتبة المثنى -قسم توزيع الصحف والمجلات»، ولا تمكث في المكتبات إلا أياماً قليلة ثم تباع لباعة متجولين يصفونها في عربات دفع باليد ويدورون فيها لتباع بخمسين فلساً أو أقل، وكان سعر تلك الطبعة من مجموعتي مئة فلس فقط.
باعتداد قلت لأصحابي في مقهى البلدية: ان مجموعتي هذه لن تزور عربة ولن يتجول بها بائع بل ستباع كلها في المكتبات أو في كليات بغداد التي كان عدد من أبناء جيلنا يدرسون فيها، وكنت قد طبعت ألفي نسخة طبعة أولى.

كتبت المجموعة تحت تأثير الفن التشكيلي وتقنياته ويمكن إرجاع كل قصة إلى انبهاري أو اهتمامي بهذا الفنان أو تلك التقنية

كانت كمية المحبة بين الأدباء كبيرة، وكان كل واحد منا يحس أن أي كتاب صدر لأحد أبناء جيله هو كتابه، وهكذا ذهبت نسخ «السيف والسفينة» إلى كل الكليات زائداً كليتي «أكاديمية الفنون الجميلة» وقد بيعت النسخ كلها، وقد تناولها الأصدقاء بالتعريف والنقد في وسائل الإعلام المسموعة من خلال برامج إذاعية ومن خلال الكتابات في الصحف، وهو ما أمدني بشجاعة الإعداد لنشر مجموعة ثانية وفي لبنان هذه المرة، حيث كان الكتاب الذي يصدر فيه يوزع على كل البلدان العربية. وكان الشاعر المرحوم بلند الحيدري يقيم في بيروت ويشرف على سلسلة أدبية لدى «المكتبة العصرية» في صيدا، فأرسلت له مجموعتي الثانية «الظل في الرأس» لتصدر عام 1968.
أعود للحديث عن نشر الأديب لكتابه الأول فأرى أنها مغامرة بل ومقامرة يدفع الحلم والوهم بالكاتب إليهما فيجد غالباً كل ما حلم به لم يتحقق منه شيء. هناك من باعوا بيتاً أو سيارة ليطبع كتابه، وأعرف شاعراً تونسياً باع مزرعة زيتون ورثها عن أبيه فلم يسترجع شيئاً من ماله، ولم يُبع من ديوانه إلا بضع نسخ.
وقتذاك لم تكن الطباعة مكلفة، وأظن ان كلفة طباعة «السيف والسفينة» لم تتجاوز التسعين ديناراً دفعتها أقساطاً لصاحب «مطبعة الجاحظ»، ولكن ذلك زمن آخر غير زماننا الذي نعيش فيه انتكاسة الكتاب أمام طغيان وسائل التواصل الحديثة.
كتبت «السيف والسفينة» تحت تأثير الفن التشكيلي وتقنياته ولذا يمكن إرجاع كل قصة إلى انبهاري أو اهتمامي بهذا الفنان أو تلك التقنية. وشبّهت قصص المجموعة بمجموعة من البذور المختلفة التي غرستها في حقل واحد لأرى أيها من الممكن أن أشتغل عليه ويحمل إمكانات التطوير، وهذا ما كان رغم أن حنيني لـ «السيف والسفينة» وعوالمها يراودني، بل ويداهمني لأستلهمه من جديد بعد أن أضيف إليه ثمار تجربتي الحياتيّة والكتابيّة التي راكمتها خلال السنوات اللاحقة في مجاميعي التي بلغت أكثر من 16 مجموعة، فسرياليّة قصة «حفرة حيث لا أقمار» في مجموعة «السيف والسفينة» هي غير سرياليّة قصة «رأس عوج ابن عنق المفقود» التي تضمّها مجموعتي القصصية «الشعارات تتبارى» التي صدرت هذا العام، ربما كان في الأمر حنين جميل إلى زمن ابتعدت عنه كثيراً.
لقد أدخلتني «السيف والسفينة» الى الساحة الأدبية دخولاً احتفائياً وصار اسمي يتردد كمجدد لفن «القصة القصيرة» الذي له روّاده في الأدب العراقي، لكن أسماءهم لم تأخذ المدى الذي أخذته أسماء الشعراء الرواد أمثال السياب والبياتي والملائكة وبلند الحيدري وشاذل طاقة وكاظم جواد وعبد الرزاق عبد الواحد وغيرهم.
لم أكتف بطبعة «السيف والسفينة» العراقية، بل حملتها معي إلى القاهرة لتصدر طبعة ثانية منها عن دار «الثقافة الجديدة»، ثم طبعة ثالثة عن «دار الطليعة» في بيروت، فرابعة في تونس سميناها «طبعة احتفائية» عام 1996 لمناسبة مرور ثلاثين سنة على صدور طبعتها الأولى تتصدرها مقتطفات مما كتبه النقاد عنها مع شهادة لي حول كتابتي لهذه المجموعة.
إن الكتاب الأول قد ينهي كاتبه -وهذا ما حصل للكثيرين- أو قد يقدمه بشكل لائق ليتموقع في المدونة الإبداعية لبلده ولغته وأنا ممتنّ لـ «السيف والسفينة»، إذ كانت فأل خير لي.