«معرض الكتاب الفرنكوفوني» | دورة جديدة من «معرض الكتاب الفرنكوفوني» انطلقت في بيروت، حاملة معها عدداً من الكتّاب والأعمال والتجارب... وكثيراً من الأسئلة حول موقع الثقافة الفرنسية ودورها النهضوي الآن وهنا في ديار الضاد. أسئلة حول سياسة فرنسا المخزية في العالم العربي وقد ازدادت انحطاطاً منذ وصول الاشتراكي هولاند إلى الإليزيه.
أسئلة حول الصراعات والنقاشات والمشاغل التي يضجّ بها المشرق العربي المتراقص على كفّ عفريت، بين مسخ تكفيري تتشارك فرنسا مع آخرين في مسؤوليّة تضخّمه، وقاتل صهيوني يحظى ببركة مطلقة من النخب السياسية المهيمنة اليوم في بلد حقوق الانسان، وتلك النخب تملك وحدها سلطة تحديد الخط الفاصل بين الخير (ما يخدم مصالح الرجل الأبيض) والشرّ (ما يتهدّد تلك المصالح).
ها نحن إذاً في قلب التناقض العظيم: نحتفي بلا تردّد بثقافة التحرر والتنوير التي تستبطنها الثقافة الفرنسية، نرحّب بحماسة بحفنة من الكتّاب والمبدعين (من الجنسين) الذين سيصنعون ألق المعرض، وفي المقابل نهتف كما فعل رفاقنا بالأمس في الافتتاح: «الحرية لجورج عبدالله». ونتقدّم بحذر من دائرة يخترقها الوعي الاستعماري وكل أشكال التبعيات والدونيّات. لحسن الحظ لن نسمع كثيراً كلمة «الربيع العربي» في هذه الدورة، وإن شارك في الندوات وحلقات توقيع الكتب بعض «أنبيائه» الذاهبين إلى تقاعد «ثوري» مبكر، أو إلى رثاء «الثورة اليتيمة». لكننا لن نفلت من عوارض «الانعزاليّة» الفرنكوفونية اللبنانية بين ندوة عن «الفينيقيّة»، وأخرى عن «الهويّات الطائفيّة»، وثالثة ستبيّن لنا على الأرجح أن «الدولة الاسلاميّة» ليست خطراً بل مجرّد فزّاعة أو أسطورة. سنفتقد كتّاباً مثل أحمد بن سعدة الذي كشف الخيوط الخفيّة للثورات الملوّنة، وميشال كولون الذي فكّك الأسطورة الإسرائيلية ومن بعدها كشف كواليس الحرب (الاستعمارية) على سوريا. سنفتقد إيمانوييل تود وادوي بلينيل اللذين يتصديان ببسالة ــ فرنسيّة صرفة للأمانة ــ لوحش «رهاب الاسلام» الذي يغزو بلد فولتير تحت راية «العلمانيّة». لكن ماذا لو نظرنا إلى النصف الممتلئ من الكأس؟ اختراق دور نشر عربيّة عدّة «القلعة» الفرنكوفرنية، مثل «الفارابي» و«نوفل ــ هاشيت» و«برزخ» و«الجديد»… جورج قرم محاضراً عن «الفكر السياسي» في العالم العربي، روجيه عسّاف مقدماً كتابه الجديد عن المسرح، فاروق مردم بك متحدثاً عن نجيب محفوظ، المعماريان جورج عربيد ويوسف حيدر، وأنسي الحاج ومحمود درويش في ترجمة الى الفرنسية (إيفانا مارشليان)، الكاتب ماتياس إينار والمسرحي جان ميشال ريب، زينة أبي راشد ولميا زيادة وجماعة «السمندل» في احتفاء بالكوميكس والرسم والجانب البصري، شريف مجدلاني ونجوى بركات… وكمال داود الذي تطلق «الجديد» مع «برزخ» روايته المعرّبة «معارضة الغريب». كمال داود هو الضيف الأبرز لهذا العام، نظراً إلى النجاح الذي أوصل روايته إلى لائحة «الغونكور القصيرة»، ونظراً إلى السجال الذي أثاره ويثيره إلى اليوم. هذا الصحافي والأديب الجزائري الذي وقف بشجاعة ضد عدوان تمّوز على لبنان عام ٢٠٠٦، يستحق في بيروت كل الاهتمام والترحاب. ومن واجبنا أن نذكّر بأنّه يقف اليوم على أرض منحنية، ليختصر إشكاليّة المثقّف العربي عندما تحتضنه اللغة الفرنسية التي كان كاتب ياسين يعتبرها «غنيمة حرب». هل يستعمل الأدوات الثقافية والفكرية والجمالية لتأكيد وجوده، والدفاع عن قضايا شعبه، أم يستسلم للأيديولوجيا المهيمنة التي اعترفت به وشهرته، ويتركها تدجّنه أيديولوجيّاً، ويروح ينظر الى نفسه من منظارها؟ بعض كتاباته الأخيرة وإطلالاته لم يكن مطمئناً. بين أن يصبح «العربي النظيف» الذي يحظى بامتيازات أسياده، أو يبقى الكاتب المشاكس الذي يصرخ ضد الخطاب المهيمن على طريقة جان جينيه… تلك هي علاقتنا الإشكالية بـ«الفرنكوفونيّة»: أن نكون شركاء للرجل الأبيض بشروطنا، أو تابعين له حضاريّاً وسياسياً ووجوديّاً.