القاهرة | اللمعة أو المفارقة، التي أشار إليها أنسي الحاج في مقدمته الشهيرة، هي بالضبط عنصر القوة الأبرز الذي يتكئ عليه الشاعر المصري السيد العديسي، في ديوانه الشعري الأخير «يقف احتراماً لسيدةٍ تمر» (دار الأدهم ــ القاهرة). عالم قصيدة العديسي بأكمله مكرّس في هذا الديوان للحديث عن كل ما تستره الثياب، وربما الثياب نفسها، وهذا ما يتضح بداية منذ العتبة الأولى، أي العنوان، إذ يطرح السؤال البديهي نفسه: «من/ما الذي يقف احتراماً لسيدة تمر؟». من هذه الزاوية، يسحب العديسي قارئه إلى شبكة من المفردات المرتبطة بهذه الثيمة: العلاقات الجنسية، الأعضاء، الأسرَّة، السراويل التحتية، وحتى الواقي الذكري ينال نصيبه. ومن هذا الاختيار الذكي تندلع اللمعة والمفارقة، إذ يشتغل الشاعر عبر أقسام ديوانه الثلاثة، على اجتراح صياغات شعرية لهذا العالم الحسّي، ومن هنا تتوهج القصائد بلغتها الذكية والمقتصدة بالتناغم مع الفكرة اللامعة بطبيعة الحال.
قصائد مكرّسة للتغني بالأعضاء، في مطلقها، قصيدة مديح وثناء تجاه تلك الأدوات المستترة التي تغزل أجمل لحظات حياة أي إنسان، يقول العديسي: «تبتعد دائماً عن الضجيج/ ــ لتورق في سكون ــ/الأعضاء خجولة بطبعها/تحب الانطواء/ غير أنها عادةً ما تقف للنساء احتراماً». كذلك يكتب الشاعر عن علاقة الشخص بأعضائه، منطلقاً من معادلة تضع الإنسان بشكل دائم في موقع الممتن وحامل الجميل تجاه تلك الأعضاء: «تمنحنا الأطفال/ والدفء/ تهبنا الأوقات السعيدة/ تزيح حمولاً عن أصلابنا/ تضبط أحلامنا على إيقاع حركتها/ نحن الجحدة/ نمنحها الكبت،/ والتسلّخات،/ ورائحة الصابون».
انطلاقاً من هذا التناول، يبني العديسي عالمه الشعري ومجازاته، ويحوّل الحسّي إلى سياقات شعرية تتسم بقدر وافر من الذكاء والعذوبة، مثلاً، يشبّه أفلام البورنو، بالتأريخ والتوثيق، لهذا العالم الإيروتيكي: «تنبت كشجرة في أحلامهم/ يشبّون لأعلى غصن فيها/ ويتمنون ــ ولو بالصدفة ــ/ خوض مغامرة صغيرة تخصّها/ لهذا،/ نسطر بطولاتها في الصفحات/ ومن أجلها وحدها صنعنا/ كل تلك الأفلام الإباحية».
ثمة حس قصصي حاضر في القصيدة، الأمر هنا لا يتّكل على اللغة، أو الفكرة فقط، بل إن ملامح دراما خافتة تطفو من حينٍ لآخر، تنتظم القصيدة ثم تخبو في مكان ما.

يحضر الحس القصصي عبر ملامح دراما تطفو من حينٍ لآخر
يتجلّى ذلك في نص مثل «استعان بفرق تفتيش دولية ولم ينجح»، الذي ينحو صوب سخرية شعرية ذات طابع لاذع: «عشر سنوات مرّت، وما زال يبحث عن غشاء البكارة، عشر سنوات لم يشعر بالملل، ولم يتسرب له اليأس. غير أن يد الله أرادت أن تهوّن الأمر عليه، فمنحه ثلاثة أبناء، ما إن ينظر إليهم فيزول عنه التعب، وغداً سيصلبون طوله أمام النجع، وربما يلهمونه طريقة تيسّر له صرف الناس، الذين يقفون منذ عشر سنوات خلف الباب، ينتظرون المنديل». والمقصود بالمنديل هنا تلك العادة الاجتماعية المنتشرة في صعيد مصر حيث يحمل العريس منديلاً مخضباً بدماء بكارة زوجته، ويشهره أمام الحشود المنتظرة في المنزل وحوله، ليروا بأعينهم دليل شرف العروس وأهلها، وتقام إثر ذلك احتفالات إضافية موازية لاحتفالات العرس نفسه. هناك حكاية تنتظم النص إذن، لها ملامح زمنية ومكانية، يعقب ذلك لحظة يثبّت فيها الشاعر/صوت الراوي اللحظة على مشهد بعينه، يضعه بين هلالين: (الرجل لم يجد غشاء البكارة المنشود. لكن الحياة استمرت).
ربما يمكن الأخذ هنا على الشاعر في بعض مناحي تناوله لتفاصيل ومفردات فكرته، أنه تورّط في أمور شديدة الخصوصية والتفرّد، مثل نظرة المجتمع الصعيدي للأمور الجسدانية، تلك النظرة التي تحمل خصوصية لا تتوفر ربما لثقافات وعرقيات وأقاليم أخرى. لكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد ارتقت القصيدة في مواضع أخرى، إلى مشارف منفتحة على اتساع الإنسانية، لغة عالمية يتحدث بها الجميع تخص الأعضاء وتوابعها، فيرد المقطع التالي في قصيدة «لو يدركون قيمتها لأقاموا لها عيداً سنوياً»، والتي أهداها الشاعر لـ (السراويل): «السراويل، رايات العشّاق،/ وحائط الصد الأخير،/ تمنحنا الدفء،/ والألوان المبهجة،/ تحفظ لأعضائنا طزاجتها،/ وتقي المؤخرات جحيم الأرصفة،/ وفي الحرب يرفعها الجنود،/ كعلامة للاستسلام».