لا يندرج حضور غازي قهوجي، في مجالاته بالاختناق. الاختناق، عنده، عبث الوجود. لم ينتمِ الكاتب والسينوغراف، إلى صحافة السخافة، وهو يهجو بكتبه القليلة، نقاط الإعلام في لبنان والعالم العربي. كل قضية، قضية عبور طويل، بالطريق إلى الوصول إلى منطقة الألوان الصريحة. بعيداً من مفاتن المذاهب الاستهلاكية، نط فوق الخيبات والتقلبات لإزالة الأوهام وقيادة الجمهور إلى الأسس المتينة، لكل ما يمتّ إلى فن المسرح. في الجامعة، انتشر نوره، بحيث علم الجميع، أنا منهم، الفرق بين الأحمر والدم.
الفرق بين الأزرق و»الأبيض المتوسط». هناك، عند كعب المبنى الحديث في منطقة الروشة، فرَّغ الكلمات من كل معنى زائد. هناك، في الطابق العاشر، في غرفة عادية، المطبخ على الأرجح، مرر عبر عباءة الوجود المثقبة بالحرب، أحد أهم الفنون المسرحية المجهولة، حتى تلك الأيام البعيدة. السينوغرافيا، أو فن شحن المسرح بالكثافة الإضافية. لا يهرب من البلاد، في غياب الأجواء الحلمية، وهو يقضي معظم أوقاته بتغيير عادات العيون. لم أعد اتذكر غازي قهوجي، مذاك، لأنه أضحى، شيئاً لا يمحى من اليوميات. ما عاد أجاب على هاتفه الخليوي في الأيام الماضية، لأنه ما عاد وجد صورته «الجديدة» مساوية لصورته «القديمة»، بعدما أصيب جسده بالضمور.
ما أراد أن نسمع تقطعات أنفاسه، وهو على سرير الغربة والوحدة في الجامعة الأميركية. داس على الواقع بأقدام قاسية، غير أنه كلما داس، حلَّق. بيتر بان بيروت وعواصم المشرق العربي، لم يصبه ألم الجسد المحبوس في مضيق التنفس في تلك السنوات، لأنه لم يبتعد عن مصباح روحه. روح خَّيرة، طيبة، متفائلة. شروط الطيران في أفلام بيتر بان. الفرق بينه وبين صناع السلسلة المشهورة، أنه ربط المسافة بينه وبين خياله، بالجهاز العصبي لا باليد. بقي محمولاً، برفعة مستوى لزومه، بالتجارب الكثيرة. شارك كل صباح، لا بتتبع الخطى، برسم الخطى، على منصات كبار مسرحيي لبنان، بعياراتهم المختلفة، من الأخوين رحباني، إذ تهادى بزهو قليل بينهما وبين السيدة فيروز، إلى زياد الرحباني («فيلم أميركي طويل» وغيرها) ويعقوب الشدراوي في «هجائية الطرطور» عن «فرافير» يوسف ادريس، وشارون على أبواب بيروت، يمر في أزقة الظل بين شركتي مياه بيروت وشركة كهرباء لبنان، ممارساً هواياته القاتلة، بقطع الماء والكهرباء عن بيارتة العام ٨٢. ثم، روجيه عساف، بواحدة من مسرحياته البعيدة عن أدوات المسرح العادية: «كرامبول».
في «كرامبول»، لعب غازي قهوجي أدواره ذات القرارات المرتفعة، الموحدة بين المقامات واللغة. البعيدة عن الحذلقات. ثم، أخذه الوضع إلى غناء الألم المتصاعد، بعدما أضحت البلاد جهنم النهايات الدائمة. ليس غازي قهوجي، شاعر كبير في التجربة المسرحية اللبنانية، لأنه شاعرها الوحيد، عبر السينوغرافيا، ذلك أنه لئن امتلك الكتابة الشعرية في المسرح، إنما امتلكها بالرهانات الواقعية، على جسر البساطة الشخصية، بتضاريس الطريق، بصخورها ذات النبض، الصامت، الهائل. كل مسرحية رهان. كل مسرحية، بالبهو، على سجادات تشريف غازي قهوجي. رسم سينوغرافيا مسرحية لأحد أبرز الكتاب المسرحيين في لبنان والعالم العربي: أسامة العارف. سينوغرافياه واحدة من أشكال جمال الزمن، في «بنسيون الست نعيمة» (1991 ــ توقفت عروضها بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي والأحداث الموازية). كل مسرحية عنده، ناتج العكس. لا لأنه يعارض المكتوب، بل أنه يقرأ الداخل بالداخل. هناك، يغدو الشكل واضحاً، كخارج، وهو يمنح نعمة تقاسم الفضاء المكسو بجمالياته الرصينة، ذات الرحابة، ذات الأفق. عالم يجيء إلى المسرح، عالم غازي قهوجي. لم يكتفِ بذلك، لأنه أدرك أنه ينبغي إبطاء الواقع، بغية بلوغ معناه. هكذا، ساهم في إطلاق مسرح الأطفال اليومي، مع عمر الشمَّاع وفائق حميصي. هكذا، حارب الواقع الضاري لحصر الأعمال الفلكلورية، والراقصة، بالحفر في الماضي وحده، مع فهد العبد الله. بفرقة العبدالله. هناك، بدت المسرحيات الراقصة، على قدر من الرحابة، من رحابة غازي قهوجي. لأن الرجل امتلك كل بداءة الحب. كل أدوات المسرح غير المجوفة بالتواضع الأجوف.
الإشارات حاضرة بغازي قهوجي. لا علاقة له بالتطبيقات البطيئة، وهو يشيد الأعمال في فلك النظرات ذات البؤر المزدوجة. لم يرفع سقفاً مستعاراً، حين طلبت منه، أن يغير بالهوة الفاغرة في إنجيلية المصيطبة. أخذ المنظور المبسط، أعاده إلى الياس شوفاني، حلقات حلقات، فوق تيجان الأعمدة. أصعد ثقب الضياء، من قبة القلب إلى قبة المسرح. هذه قاعدته الدائمة، أن نسمو لا أن نرتطم. لم يقدم أقراص عسل علاقته بالآخرين، إلى الآخرين. أمين صندوق ذكريات الأخوين رحباني. أمين صندوق ذكريات الكثيرين، أبقى الذكريات بفراغات أزمنتها، بدون أن يخنقها. هذا الرجل بحيرة، بحر. هذا الرجل، أجمل من بحيرة، حرٌ، ينتج بدون رغبة بإمحاء أحد. لا حسابات خسائر، عنده. ولا مصادرة إيماءات. شبكة منمنمات مطرزة، بروح الأسلاف والحضارات الجديدة. لا شيء، بعيداً من المسرح، بالرجل، إلا حياء الرجل. لطالما أخفى حياءه بالهجاء والتهكم والتنكيت. لن ينام بعد اليوم، بعد أن مات هادئاً، هدوء لهجته الهادئة. مات صياد الفيروز، من ألوان الماء. مات حارس عرائس البحر. لا دليل، بعد، لإرجاء الحزن.
* ناقد مسرحي لبناني