هرعتُ صباحاً إلى الطريق واستقللت سيارة أجرة علّني أصل قبل الوقت المحدد. كنت قد انتظرت أشهراً حتى تلقيت ذلك الاتصال الذي بشّرني عبره صوتٌ أنثوي لطيف، بقبول أوّلي لملفّي، قبل أن تحدد لي صاحبته موعداً للمقابلة وإتمام الاتفاق. أخيراً سيتحقق حلمي وسأحصل على قرض السيارة. ارتديت الفستان الأبيض الطويل الذي علقته منذ يومين على باب الخزانة استعداداً لليوم الموعود، وزينت شعري بتاج الورود البيضاء الذي أرسلته لي جدتي من القرية بواسطة أحد أقربائي، بعدما علمت بالمناسبة المرتقبة.ها أنا أقترب من بوابة المصرف. البوابة التي تحرس حلمي الأثير. أدنو منها وأنا أسمع خفقان قلبي. قبل أن يستقبلني حارس فارع الطول ويسألني عن هدف الزيارة. «لدي موعد بخصوص قرض السيارة»، قلت بصوتٍ شبه مرتجف بعدما عرفت بنفسي. هز رأسه نزولاً، ثم دعاني للسير خلفه. رفعت فستاني عن الأرض، ومشيت خلفه محنية الرأس، كمن يخجل من وجوده في مكان أعلى شأناً منه بكثير.
وما إن فتح الباب بواسطة بطاقة كانت بحوزته حتى غمرني نور بدا مصدره بعيداً، فتسارعت دقات قلبي وأنا أتبين ممراً طويلاً بالكاد يتسع عرضه لشخصين، يحدّه حائطان مرتفعان، أعلاهما سقف أشبه بأسقف القصور القديمة.

لبرهة شعرت باستياء من طول الطريق، لكنني ما لبثت أن قمعت وقاحتي: «لا بدّ لهندسة المصرف أن تكون بهذه العظمة! فبين هذه الجدران يقرر مصير آلاف البشر، وتُمدّ حبال نجاتهم. بين هذه الجدران ينمو الطموح أو يتم وأده. هنا يصنع مستقبل الأفراد. هنا يجري العالم الحق. هنا معنى الحياة».
وصلنا إلى الغرفة المنشودة أخيراً. طرق الحارس الباب الخشبي بطريقةٍ خلتها كلمة سر مخصصة لهذا القسم بالذات. انفتح الباب، فأومأ لي الحارس الذي بدا متجهماً كأنه يتهيّب اللحظة، بالدخول، فيما بقي هو في الخارج.
بخطوات متباطئة دخلت وأنا أحاول رفع رجليّ مجدداً عن الأرضية، في حرصٍ شديد على ألا أزعج أحداً.
كان الضوء لا يزال قوياً، وبالكاد استطعت إبقاء عينيّ مفتوحتين. ثم لمحت عبر الشعاع رجلاً بثوبٍ أسود طويل، لم يكسر سواده سوى علامة بيضاء على الياقة. إنه قسٌ. بدا، بشعره الأبيض وبملامح ودودة تبيّنتها بصعوبة، كأنه أقبل من الفراغ أو ولد من خيوط الضوء. ثم خفت الضوء تدريجياً فاتسعت الرؤية. لقد كنا بمفردنا في صالة كبيرة قليلة الأثاث، جدرانها تلمع.
«تعلمين أن هناك شروطاً كثيرة يجب أن يستوفيها ملفك، واختبارات عدة عليك أن تخضعي لها بنجاح، لكي تحصلي على الموافقة النهائية». قال بصوتٍ خفيض. «نعم لدي فكرة عن الموضوع»، أجبت وأنا أتجنّب النظر في عينيه مباشرةً. دخل رجلٌ الغرفة من بابٍ آخر، كان يرتدي لباس الممرضين. ولما وقف أمامي، أخرج حقنةً من جيب ثوبه، وأمسك ذراعي الأيسر، ثم سحب عينة من دمي، قبل أن يخرج من القاعة، فيما لا أزال أقف أمام القس وجهاً لوجه.
أومأ القس برأسه يميناً، فصدحت من أنحاء الغرفة كافة، موسيقى أعرفها جيداً. إنه نشيد المصرف. كنت قد تدربت عليه مدة شهرين، حتى صرت أحفظه مثلما أحفظ اسمي. وضعت يدي اليمنى على قلبي، للتعبير عن الولاء، وشرعت أنشد وأنا أحدق في السقف.
أنهيت المهمة بنجاح. ابتسمت ابتسامة رضى عن النفس. عندئذٍ، استدار القس ومشى، فأحضر من إحدى زوايا القاعة جرناً رخامياً كبيراً، كنت أراه دائماً في زوايا الكنائس. وضعه أرضاً أمامي ودعاني للجلوس فيه. خلعت حذائي ورفعت فستاني، ثم اعتليت الجرن وتكورت في داخله. تناول عبوة وكتاباً صغيراً كان في جيبه، وبدأ يسكب الماء على رأسي، ويتمتم بكلمات غير مفهومة. دقائق معدودة خلتها ساعة مرت قبل أن ينتهي. نظر في عيني المبلولتين مباشرةً، وقال: «مبروك لقد أصبحت رسمياً من أبناء مصرفنا». نهضت بسرور لم أجهد لأخفيه بقناع الرصانة الذي كنت ألبسه طوال المقابلة. فلقد اجتزت المراحل الأكثر صعوبةً وها أنا قاب قوسين من تحقيق الحلم.
وقفت في مكاني مجدداً. دخل الممرض حاملاً في يده هذه المرة آلة حادة. قادني الرجلان إلى زاوية خارج الغرفة، فيها منضدة وخزانة كبيرة علقت فوقهما لافتة كتب عليها «قسم الذبائح». جلست على كرسي خشبي مجاور، حيث أمسكني القس الذي وقف خلفي من كتفيّ. رفع الممرض الآلة التي تشبه السيف والمنشار في آن، وقطع ذراعي اليمنى من النصف. ثم وضعها في كيس نايلون قبل أن يودعها داخل الخزانة.
«هنيئاً لك. لقد حصلتِ على القرض بنجاح. انتظري اتصالنا لنبلغك موعد التسليم». «شكراً أيها المحترم. ولكن كيف سأقود بلا يدي اليمنى؟» قلت وأنا أمسح دمي بفوطةٍ أعطاني إياها الممرض. «لا تخافي» قال. «نحن نعمل مع شركة عالمية تصنّع سيارات خاصة بعملائنا، تقود بمفردها».
شكرته مجدداً، وخرجت من الباب الخلفي الذي ينفذ مباشرةً على الطريق العام. كانت السماء صافية وبدت أبعد من المعتاد. أما الزحمة فكانت على أشدّها. جحافل بشرية تجيء وتذهب أمامي. تراءت لي فجأة، فقاعات بيضاء فوق رؤوسهم جميعاً. واحدة رأيت بداخلها كلمة «سعادة»، وأخرى فوق رأس شاب عشريني لمعت داخلها كلمة «ثورة». امرأتان بكامل أناقتهما رأيت داخل الفقاعتين أعلاهما كلمة «حرية». مجموعة رجال يذرعون الطريق ذهاباً وإياباً، ازدحمت فوق رؤوسهم فقاقيع بداخلها: «زواج، فلسطين، ديمقراطية، مستقبل...». لكنني فجأة، تنبهت إلى أن كلهم كانوا مثلي تماماً، مبتوري اليد اليمنى.
* كاتبة لبنانية