لم يكن فرانز كافكا (1883-1924) أول كاتب تبدأ مسيرته الإبداعيّة فعلياً بعد وفاته؛ ولم يكن أول كاتب يموت شاباً. ما السر لدى كافكا إذاً؟ لمَ أصبح هذا الشاب التشيكيّ- النمساويّ أحد أكثر الكتّاب شهرةً في القرن العشرين، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق؟ ندين جميعاً إلى صديقه ماكس برود الذي خالف وصيّته التي نصّت على حرق جميع مخطوطاته ورسائله، فأقدم على نشر معظمها خلال عشر سنوات، ليصدّر إلى العالم كاتباً سيحتلّ لوائح الكتب الأكثر رواجاً، وليصبح اسمه بمثابة علامة تجاريّة رغم أنّ معظم هذه الأعمال غير مكتملة.
ربما كان سبب شهرة كافكا، حتى لدى من لم يقرأوا أعماله، هو شهرة الصفة المنسوبة إلى اسمه: «كافكاويّ»، التي يشير المؤرّخ الأدبيّ والثقافيّ الأميركيّ ساندر غلمان إلى أنّها احتلّت مكاناً دائماً في جميع اللغات الأدبية العالمية بلا استثناء، بحيث تمثّل «أهوال ومصاعب العالم الحديث». لم تكن تلك الصفة حكراً على المشهد الثقافيّ، بل تكاد تكون إحدى الصفات الأدبيّة النادرة التي تسلّلت حتى إلى «لغة العوام». وإذا أضفنا «الدراما» التي أحاطت بحياة الشخص، وظروفه ونشأته كيهوديّ في براغ، ثم وفاته المبكّرة، و«إنقاذ» أعماله من التدمير، ستكتمل لدينا صورة الذي يعدّه كثيرون أحد أكثر الكتّاب تأثيراً في اللغة الألمانيّة، وفي القرن العشرين بكامله. واستناداً إلى كلّ ما سبق، لن يعود من المستغرب إدراك السبب الغامض في كون هذا الكاتب أهم من مريديه برغم تفوّقهم عليه بدرجات كبيرة. وبرغم انتشار «الكافكاويّة» بقدرٍ أكبر من صاحبها، لم يبتسم القَدَر بالمقابل لـ «الكافكاويّين» كي يطيحوا كافكا عن عرشه الأدبيّ، مع أنّه لن يكون، في أفضل الأحوال، إلا كاتباً متوسّط القيمة مقارنةً بسلسلةٍ من الكتّاب الكافكاويّين (بهذه الدرجة أو تلك) الذين يفوقونه في الأهميّة لغةً وأسلوباً وأفكاراً، ابتداءً بجورج أورويل وراي برادبوري، مروراً بغابرييل غارسيا ماركيز ويوجين يونسكو، وليس انتهاءً بخورخي لويس بورخيس وج. م. كويتسي. أن تكون صالحاً لجميع الصفات يعني أن ثمّة مشكلةً ما. ليس ثمة مدرسةٌ أدبيّة أو نقديّة لم تحتكر اسم كافكا، والمفارقة أنّهم كانوا جميعاً على حق بدرجةٍ ما.

«التحوّل» ربما تمثّل تلخيصاً
لمعظم الأفكار التي تدور حولها أعماله

في قصّة قصيرة، «صديق كافكا»، للكاتب البولنديّ-الأميركيّ إيزاك باشيفيز سنغر، ترد جملةٌ بالغة الدقة لتوصيف كافكا على لسان صديقه المفترض في القصة: «الإنسان العاقل في أعلى درجات تعذيب الذات».
وكذا كان كافكا فعلاً، حين يؤكّد أننا «ميّالون لأن نكره أنفسنا لأنّنا لم نُظهر بعد أنّنا نستحق أن تثق بنا القوانين». ربما كانت هذه هي أعلى درجات الانسحاق البشريّ أمام القانون/السلطة منذ انبلاج فجر الحداثة، مع أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. كانت هذه الفترة بالذات – للمصادفة – هي الفترة التي شهدت حياة كافكا الذي فارق الحياة قبل وصول «الحداثة» إلى درجاتها المتطرّفة على يد الفاشيّة والنازيّة.
ربما ليس ثمة مفرّ من إعادة تكرار المصطلحات التي التصقت بكتابة كافكا، بخاصة «الاغتراب»، و«الاضطهاد»، و«الهويّات المتحوّلة»، عند الحديث عن قصّته الأشهر «التحوّل» التي بلغت عامها المئة منذ نشرها للمرة الأولى بالألمانيّة عام 1915 (رغم أنّه انتهى من كتابتها عام 1912). تلك هي إحدى الأعمال المهمة القليلة التي نشرها كافكا في حياته، وربما كانت تمثّل، بشكلٍ ما، تلخيصاً لمعظم الأفكار التي تدور حولها أعماله. ما ينبغي التركيز عليه بدايةً هو صعوبة ترجمة كافكا.
لا يعود هذا إلى أسلوبه أو لغته بل إلى دقّة اللغة الألمانيّة نفسها، إذ يمكننا التعميم قليلاً لنقول إنّ أكثر الأعمال التي ظُلمت في الترجمة كانت تلك المكتوبة بالألمانيّة، التي تقصّر عنها اللغات الأخرى من ناحية دقة المصطلحات والتعبيرات. ولو اكتفينا بالتركيز على كافكا، وعلى قصته «التحوّل» على نحو خاص، لوجدنا أنّ الجدل لا يزال محتدماً إلى اليوم في ما إذا كانت «Verwandlung» تعني «التحوّل» أم «الانمساخ»، عدا عن الترجمة الدقيقة لكلمة «ungeziefer» التي تشير إلى الكائن الذي تحوّل إليه غريغور سامسا، إذ اعتبره بعضهم «حشرة» أو «خنفساء»، وتحايل بعضهم على الكلمة ليجعلها «كائناً شبيهاً بالحشرة»، رغم أنّ المعنى الأصليّ للكلمة بالألمانيّة هو «الحيوان غير النظيف الذي لا يصلح للأضحيات»، وربما كان هذا هو المعنى الأقرب الذي يريده كافكا، بخاصة أنّ غريغور سامسا (في هيئته البشريّة أو بعد تحوّله) بقي هو ذاته: الشخص الذي يكاد يكون لامرئياً لدى عائلته وزملائه في العمل، إذ لا يعدو أن يكون برغياً آخر في الماكينة، ولا يصلح أن يكون أيّ شيء آخر، بحيث تنتهي صلاحيّته مع توقّفه عن العمل.
لا تزال هذه القصة إلى اليوم موضوعاً دائماً لدى جميع المشتغلين في حقل النقد تقريباً. أسبغ عليها النقّاد، بكونها مثالاً عن الكتابة الكافكاويّة كلها، جميع السمات والمصطلحات التي كانت في متناول اليد. ربطها بعضهم بمفهوم «الاغتراب الماركسيّ»، واعتبرها آخرون مثالاً عن «الوعي النسويّ» لدى غريتا ساسما أخت غريغور، وركّز عليها كثيرون بكونها أحد الأعمال التي تمهّد لفكرة الخضوع للقانون والسلطة، بخاصة حين يقارن غريغور بعد تحوّله بين صورته الحاليّة وصورته السابقة حين كان بالبزّة العسكريّة، وخوفه الغرائبيّ من التأخّر عن العمل ومواجهة مديره رغم أنّ هذا يُفترّض أن يكون آخر ما يفكّر فيه مَنْ تحوَّل إلى حشرة؛ عدا عن تطبيق المنهج الفرويديّ من ناحية أوديبيّة بشأن العلاقة بين غريغور وأبيه، من دون أن ننسى تركيز نقّاد عديدين، أبرزهم الناقد الأميركيّ هارولد بلوم، على «يهوديّة» كافكا، وربط القصة بالظرف التاريخيّ لليهود في براغ مطلع القرن العشرين.
قد يكون سبب رواج كافكا هو تنوّع مدارس شُرّاحه ونقّاده؛ أي، اشتُهر كافكا بفضل تأويل كتابته لا بفضل كتابته التي كان ثمّة مبالغة بشأن أهميتها أحياناً. ولعل أحد أسباب تباين وجهات النظر بشأن «التحوّل» يعود إلى تشديد كافكا على وجوب عدم التركيز على الحشرة بذاتها، إذ رفض إدراج صورة لغريغور بعد تحوّله على غلاف الطبعة الأولى من القصة: «لا يمكن تصوير الحشرة بذاتها. فلتكن صورة باب مفتوح والظلام خلفه بينما الحشرة لامرئيّة، ولا حتّى من مسافة بعيدة». ولا يزال هذا الباب، رغم مرور مئة عام، مشرعاً على احتمالات مفتوحة.