عشيّة استشهاد الشاب الفلسطيني ضياء التلاحمة، كان يراقب الاقتحام الليلي للحرم الإبراهيمي في مدينته، الخليل. مجموعةٌ كبيرة من المستوطنين اقتحمت الحرم مساءً بتزعم وزير «الأديان» الإسرائيلي دافيد ازولاي.
الموقف استفزّ الشهيد التلاحمة الذي لم يأت الفجر التالي إلا وكان مستعداً وكامناً للتصدي لدورية إسرائيلية بالقرب من مفرق خرسا، جاءت لتمارس عربدتها الليلية؛ فالإسرائيليون لا يبدون الثقة الكاملة بما تقدمه الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة في رام الله من خدمات رغم تقديرهم لها، لهذا يحرصون بأنفسهم على الاستدعاءات الاستباقية والاعتقالات في جميع مناطق الضفة، الخاضعة للسلطة أو البعيدة عن «سلاحها الشرعي».
أطلق جنود العدو الرصاص على ضياء، ما أدى إلى إصابته وانفجار «كوع» (عبوة صغيرة مصنعة شعبياً) كان في يديه. انتبهوا إلى وجود الشهيد، لوضعه مجموعة من الحجارة في الشارع كي يضطر من يقود «الجيب العسكري» إلى تخفيف السرعة. نزل الجند من سيارتهم المصفحة ينظرون إليه وهو ملقى على الأرض. تركوه ينزف لساعات قبل أن يكون القرار الجبان بين خيارين: إما استدعاء كلب مدرب للتأكد من وفاة الشخص، وإما الخيار الأكثر حرصاً، وهو ما كان، بإرسال «روبوت» آلي يسحب الجثمان.
منع الجنود الإسرائيليون الإسعاف الفلسطيني من التقدم نحو ضياء، تماماً كما كانوا يفعلون في أحداث الانتفاضة الثانية، واحتجزوا الجثمان لخمس ساعات قبل تسليمه فجراً إلى ذويه. كذلك عملوا بعد ساعتين من الحادث على اقتحام بلدة خرسا واعتقال شاب آخر يدعى حاتم أيمن الهيموني، مع حرصهم على تفتيش منازل المواطنين وتخريبها، حيث دارت مواجهات أخرى هناك.
بهذه الطريقة الإجرامية رحل ضياء، الملقب بـ«أبي العباس» (مواليد 1994)، الذي قضى شهر رمضان الماضي مرابطاً في المسجد الأقصى، بعدما كان يدخله خلسة، وهو نجل أحد القادة المؤسّسين لـ«حركة الجهاد الإسلامي» والأسير السابق عبد الحليم التلاحمة.
نعت «الجهاد الإسلامي» شهيدها «المهندس التلاحمة»، الذي قالت إنه «استشهد أثناء تأدية واجبه الوطني الجهادي في التصدي لقوات الاحتلال ومدافعاً عن الأرض والمقدسات»، ووجهت الدعوة إلى «أبناء شعبنا لاستمرار المواجهة مع قوات الاحتلال دفاعاً عن الأقصى». كذلك حذر القيادي في الحركة في الضفة، وحيد أبو ماريا، من أن «عاصفة الانتفاضة قادمة»، قائلاً إن «الخليل ستكون شرارة الملحمة المقبلة مع المحتل الإسرائيلي». وأضاف: «ما نشاهده اليوم أن الجهاد الإسلامي وكل الشرفاء من المقاومين باتوا هدفاً للعدو الإسرائيلي وأعوانه... من يعتقد أن الأموال ألهت شعبنا الفلسطيني عن قضيته المركزية فهو واهم».
لم تمض ساعات على قتل التلاحمة، حتى استشهدت هديل الهشلمون، متأثرة بجراح أصيبت بها صباحاً برصاص العدو على حاجز «الكونتينر» وسط الخليل. العدو ادّعى أن الهشلمون (18 عاماً) حاولت طعن أحد الجنود، ولكن الصور التي وثقتها حصرياً مجموعة «شباب ضد الاستيطان» (مرفقة في الموقع الإلكتروني)، أظهرت بوضوح أن الجنود أطلقوا النار بلا سبب عليها، ما أدى إلى إصابتها بجروح خطرة، بعدما رفضت نزع حجابها كي يراها الجنود. وقد تركوها تنزف لأكثر من نصف ساعة، قبل السماح لسيارة إسعاف بنقلها إلى المستشفى، حيث أعلن استشهادها لاحقاً.
جراء ذلك، حاولت حكومة «الوفاق» في رام الله أخذ دورها المعتاد في الشكوى، فطالبت «الأمم المتحدة بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في ملابسات استشهاد هديل الهشلمون أثناء عبورها البوابات الحديدية على حاجز الكونتينر»، قائلة إن «ما أظهرته الصور هو أن الفتاة هديل لم تشكل على جنود الاحتلال أي خطر».
حركة «حماس»، من جانبها، نعت الشهيد التلاحمة، وقالت في بيان رسمي، أمس، إنها تشيد بـ«شجاعة الشهيد»، مضيفة أن ضياء «الذي اعتقلته أجهزة أمن السلطة أكثر من مرة على خلفية انتمائه إلى فصيل مقاوم، دفع ضريبة الذود عن أبناء شعبه»، ومشيرة في الوقت نفسه إلى أن السلطة في الضفة «لا تزال تلاحق أبناء فصائل المقاومة على مختلف انتماءاتهم السياسية».
وفي الوقت الذي جددت فيه «حماس» مطالبتها السلطة و«فتح»، بـ«احترام دماء شهداء شعبنا وإطلاق يد المقاومة المكبلة بأصفاد الأجهزة الأمنية»، طالبت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» رئيس السلطة، محمود عباس، بـ«وقف التنسيق الأمني والمفاوضات واتفاق أوسلو مع الاحتلال». وقال نائب الأمين العام لـ«الشعبية»، أبو أحمد فؤاد، إن على عباس «طرح جميع قرارات المجلس المركزي التي شكلت الإجماع الوطني، وفي مقدمتها وقف التنسيق الأمني والمفاوضات».
وسط هذا الغضب الشعبي والمطالبة الفصائلية، كان محمود عباس في وادٍ آخر. رئيس السلطة الموجود خارج الضفة قال إنه يحذر من «مخاطر اندلاع انتفاضة لا نريدها» في حال استمرار الاعتداءات الإسرائيلية. لكن لم يفته أن يصف، في ختام لقائه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، أن «ما يحدث خطير جداً»، حاثاً رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، على وقف هذه الممارسات. بعد ذلك، طار «أبو مازن» إلى موسكو ليضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في «صورة تطورات الأوضاع في القدس والاعتداءات المتواصلة التي ينفذها الاحتلال».
عباس وسلطته المتخوفة من «وضع خطير وسنوات كبيسة قادمة» (راجع المحضر المنشور في العدد ٢٦٧٣ في ٢٤ آب)، يعرفون أن تراكم القتل والإذلال سيقود الشعب الفلسطيني إلى انتفاضة، حتماً لن تستطيع أجهزة الأمن المدربة لصدّها السيطرة عليها، وما يؤكد ذلك أن عمليات جيش العدو المباشرة، عسكرياً وأمنياً، لم تتوقف في مدن الضفة، فيما يظهر الدور الأمني للسلطة في سدّ الثغر التي تغيب عن إسرائيل، وقمع حتى «المظاهرات السلمية».
اللافت أن صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، كشفت، أمس، عن أن عباس بعث مؤخراً برسالة إلى نتنياهو حول «الجمود السياسي» وما ينوي قوله في خطابه في الأمم المتحدة. ويبدو أنه هكذا تفجر «القنابل» التي يعد بها عباس، وهي تبليغ الإسرائيليين ماذا سيقول قبل فعل أي شيء!
الصحيفة أشارت إلى أن الوزير السابق مئير شطريت، الذي دعاه عباس إلى «اجتماع سري قبل أسبوعين»، هو من أوصل الرسالة. وأضافت: «كشف عباس هذا الأمر خلال الاجتماع الذي عقده في باريس مع أربعة دبلوماسيين إسرائيليين متقاعدين، شغلوا في السابق منصب السفير الإسرائيلي لدى باريس، وذلك بمبادرة من رئيسة بلدية باريس آن هيدلينغ».

أبدت السلطة مراراً تخوّفها من فقدان السيطرة والانجرار إلى انتفاضة

ردّ الإسرائيليون بأن «نتنياهو صرّح عدة مرات في الأسابيع الأخيرة بأنه مستعد للقاء عباس واستئناف المفاوضات من دون قيود مسبقة، وسألوا عباس لماذا لا يجتمع بنتنياهو، وطلبوا منه الرد علانية على الدعوة لاستئناف المفاوضات»، بل إن أحد السفراء قال إن عباس أبلغهم أنه مستعد للقاء نتنياهو، لكن «جهة ثالثة ليست إسرائيلية» تعارض إجراء اللقاء وتمنعه، فحاولوا فهم من تلك الجهة، فرفض «أبو مازن» كشفها.
كذلك ذكرت «هآرتس» أن لقاءً آخر عقده وزير الداخلية سيلفان شالوم قبل شهرين مع (كبير المفاوضين) صائب عريقات، وبعث عباس معه برسائل أخرى إلى نتنياهو. لكن شطريت، الذي نقل الرسالة الأخيرة، رفض التعقيب على النبأ، فيما أكد مصدر إسرائيلي للصحيفة أن شطريت اجتمع بنتنياهو بعد عدة أيام من لقائه عباس ونقل إليه الرسالة.
«المطمئن»، وفق الصحيفة، أن عباس لا ينوي الإعلان عن تفكيك السلطة أو إلغاء اتفاقات أوسلو، مع أنه «لمّح إلى أنه لن يتمكن من تطبيق الاتفاقات بحذافيرها في حال استمرار الجمود السياسي مع إسرائيل». رغم ذلك، أوضح رئيس السلطة أنه «في حال طرأ تغيير على الأوضاع قبل الخطاب، لا توجد لديه مشكلة في تغيير الخطاب ولهجته حتى في اللحظة الأخيرة».