حدّة المعركة الانتخابية في جزين ــ عين مجدلين، والتقارب الكبير بين الأوراق البرتقالية والزيتية في صناديق الاقتراع، لم توتّر اليوم الجزيني الانتخابي. فقد ضُبط التنافس، وشهدت ساحات المدينة ولادة قواتية جديدة في حضن الزعامة العازارية
غسان سعود
تضبط فريال الإيقاع في قلم الاقتراع. لا صوت يعلو صوتها، ويكفيها أن ترفع حاجبيها ليشعر «المشاغبون» بالذنب. الدركي الواقف على باب القلم فهم بسرعة أن فريال لن تتسامح معه إن هو دخل الغرفة، خلافاً للقانون. أما المندوبون، فعادوا تلامذة في حضرة الموظفة في وزارة المال، ينتظرون الإذن منها للكلام.
فريال – الهرمليّة، أتت من الشياح إلى جزين أول من أمس، لتقوم بدور مساعدة رئيس قلم الاقتراع. لكنها سرعان ما عرقلت عمل رئيسها حين اعترضت على تساهله مع اثنين يعرّفان عن نفسيهما بصور عن الهوية، فمنعتهما من الاقتراع. السيّدة المعتزة بلقب الضابط الذي منحه أهل القلم لها، وازنت بين الجد والمزاح، فقضى المندوبون يوماً انتخابياً ممتعاً معها، أثار غيرة رئيس القلم المجاور الأستاذ بهاء مراد ومساعده الأستاذ ميشال صراف اللذين كانا يقضيان دقائق الفراغ في غرفة فريال. هنا تناسى المندوبون أنهم يمثلون لائحتين تتعاركان، فبدأ تبادل النكات، ووصفات إعداد الطعام، فضلاً عن رسم أشجار العائلات التي بين أيديهم في لوائح الشطب.
أجواء الودّ داخل القلم تنتقل إلى الخارج أيضاً. فمدينة جزين – عين مجدلين، التي شهدت إحدى أهم المعارك الانتخابية الجنوبية، لم تشهد طوال اليوم الانتخابي أيّ توتر جدي. تمثال سيدة جزين التي تحتفل بورود المصلين في هذا الشهر، ظلل مجموعتين من الشباب، واحدة عونية توزع اللوائح، إضافة إلى بطاقة بريدية تدعو إلى «التغيير»، وأخرى قواتية تنثر على المارّين بسياراتهم لوائح «جزين حلوة وأحلى». بعد هؤلاء بنحو خمسين متراً، تقف مناصرتان للنائب السابق سمير عازار تحاكيان العونيين والقوات. خلفهما، يجتمع نحو عشرة عونيين بعضهم يشكل بأعلام التيار الوطني الحر قوساً تمر من تحته السيارات، وبعضهم الآخر يوزع الورود في استنساخ عوني للتقاليد الكتائبية. ووسط المواكب السيارة، لا مشكلة لدى صبايا القوات في أن يهززن خصرهنّ على «رح نبقى هون مهما العالم قالوا.. ما بنترك عون وما بنرضى بدالو». كما لم تحدث مشكلة في إكمال أبواق السيارات العونية للجزء الأول من الزمور القواتي.
هنا علاقات الناس بعضهم ببعض وطيدة. فالاحتلال ثم الهجرة القسرية والطوعية، إضافة إلى تداخل الأحياء وجغرافيا البلدة، تجعل من جزين التي لا يتجاوز عدد ناخبيها الثمانية آلاف، أقرب إلى القرية منها إلى المدينة. وهكذا يتكرر في أكثر من مكان مشهد العوني والقواتي يتضاحكان، ومشهد العوني والعازاريّ يذهبان معاً إلى مركز الاقتراع.
في ساحة جزين، فاز العونيون بالموقع الأهم. إذ حوّلوا مطعم الشلال في قلب الساحة إلى مكتب انتخابي يديرون منه المعركة. هناك حجز موقع التيار الإلكتروني لنفسه طاولة كانت صلة الوصل المباشرة بينه وبين أخبار جزين الطازجة. أما الطاولة المجاورة، فخُصِّصت للاتصال بمن تأخّر حضورهم. وكان لافتاً في عمل الماكينة العونية توزيعها الناخبين المؤيدين للتيار على مجموعات، يفترض أن تقترع كل منها في وقت محدد. وهكذا لوحظ في الوقت المناسب تأخر البعض أو ترددهم في الصعود، فعولجت معظم المشاكل ولم تحصل مفاجآت على هذا الصعيد. وقد سجل قبالة كل اسم في لوائح الشطب، اسم ناشط عونيّ كان مكلفاً الاتصال به وإحضاره ليقترع، علماً بأن مكتب جزين كاد أن يكون المكتب الثاني للعونيين في هذه المعركة، إذ كان للماكينة العونية الجزينية مكتب آخر في منطقة عين الرمانة نظم انتقال الجزينيين الساكنين في بيروت إلى بلدتهم للاقتراع، واضعين سيارات عدّة بتصرفهم. وقد سمح التخطيط العوني المسبق للمعركة، بأن تحجز «أو تي في» لنفسها أفضل ساحة لتغطية اليوم الانتخابي، والمتمثلة بباحة القصر البلدي في جزين.
في المقابل، بدا أن ماكينة عازار اتعظت من دروس الانتخابات النيابية الأخيرة، فحاولت توطيد اتصالاتها بالجزينيين في بيروت، وقد راهنت على تقاسم جزء مهم من هؤلاء مع العونيين. أضف إلى ذلك أنّ إعداد المندوبين، في الشكل والمضمون، كان أفضل بكثير من الانتخابات النيابية. ولم تتخلّ ماكينة عازار عن تقليد اللافتات، فرفعت العشرات منها في مختلف أحياء جزين، آمرة أهل البلدة مرة أن «انتخبوا جزين حلوة.. وأحلى» وداعية مرة أخرى إلى «جزين التسامح... لا الحقد»، ومبشّرة مرة ثالثة بـ«جزين الإنماء... لا الدعاوى».
بدورها، كانت القوات اللبنانية المنتصر الأكبر أمس. فقد استمعت إلى أنصار خصمها الجزيني الأقدم، يهتفون باسم حكيمها، ورأتهم يرتدون قبعاتها ويلوّحون بأعلامها، إضافة طبعاً إلى اقتراعهم لمرشحيها. وكان الانسجام المفاجئ في التنسيق بين العازاريين والقوات محور أكثر من نقاش جزيني أمس، وخصوصاً وسط بعض العازاريين المعجبين بالعماد ميشال عون، والذين تخوّفوا من أن يكون تنسيق أمس مقدّمة تبني القوات عليها حيثيتها الجزينية. فالتجارب الانتخابية الجزينية تؤكد أن النواة القواتية سواء في مدينة جزين أو في القرى المجاورة لا تزال جنينيّة. وبالمناسبة، أطلقت القوات قسماً جديداً أمس، يحاكي قسم جبران تويني، وزعته على جدران أبنية عدة أمس، يقول: «نقسم بالله العظيم أن نبقى موحدين، للحق مناصرين، للظلم مقاومين، دفاعاً عن جزين، إلى آبد الآبدين».
أما الكتائب، حلفاء عازار والقوات الثانويون، فقد كانوا أمام تحدي إثبات حضورهم في جزين، مستقلين عن النائب والوزير السابق إدمون رزق. ولم يسجل لهم شعبياً أكثر من تجمع نحو عشرة مناصرين للكتائب تحت بيت الكتائب الجزيني. وقد حوّلوا معظم أعمدة الكهرباء في السوق إلى منصات للأعلام الكتائبية.
بدوره، استعاد رزق أمس تألّقه الذي فقده منذ زمن. فبعدما أسقط عازار مبادرته التوافقية، تراجع رزق عن موقف الحياد، والتزم الاقتراع مع قاعدته التي تضم نحو 500 ناخب لمرشحي القوات اللبنانية الخمسة، إضافة إلى ثلاثة عشر مرشحاً من لائحة التيار الوطني الحر. وبذلك، يعبّد رزق الطريق أمام ابنه لدخول المعترك السياسي الجزيني بعلاقة جيدة مع العونيين والقوات.

عبّد رزق الطريق أمام ابنه لدخول المعترك السياسي بعلاقة جيدة مع العونيين والقوات

مقابل عشرات الصور العملاقة التي رفعها العونيون لأسود، لم ترفع أي صورة لعازار

وبعيداً من الأحزاب، تشهد المنازل المجاورة لمركز الاقتراع زحمة ضيوف. فقد تمركز فيها المرشحون ليطاردوا بعض العابرين، محاولين الاختلاء بهم لإقناعهم بتمرير اسمهم على الأقل. في أحد هذه المنازل، لم تكفِ باقات البقدونس الأربع لإعداد ما يكفي من التبولة. هنا لا بد من الاستعانة بماكينة التيار. ففي زمن الانتخابات، يستعيد الشباب جهوزيتهم الدائمة لتلبية طلبات الأهل. المهم، يقول أيمن، أن يقنعوهم بالاقتراع للتيار: «نحضر البقدونس ونكتّ البصل أيضاً».
في منزل مجاور، تروي سيدته أنها تحافظ على علاقاتها الاجتماعية «مع كل الناس»، لكنها لا ترتاح للعونيين، لا تجد ما تتحدث به معهم ويستفزها غرامهم بالنائب زياد أسود «الذي لا يقيم وزناً لأشخاص مفضلين في جزين». هذه السيدة تخاصمت مع جارتها التي تستأجر عندها، بعدما قررت رفع صورة لأسود لأن والدها لن يسامحها في السماء إن علم بأن صورة خصم لعازار قد ارتفعت في منزله، علماً بأن عازار الذي يتجنب التصريح، يتجنب التصوير أيضاً. فمقابل عشرات الصور العملاقة التي رفعها العونيون لأسود، لم ترفع أي صورة لعازار.
الأكثرية العونية في شوارع جزين تتحول إلى أقلية داخل مراكز الاقتراع حيث حشدت ماكينة عازار المندوبين. لكن عبثاً حاول هؤلاء التدخل لدى المقترعين الذين كانت الماكينة العونية توصلهم واحداً تلو الآخر إلى مراكز الاقتراع، مدركة أن لديها في بيروت وجبل لبنان أنصاراً جزينيين يميلون الكفة لمصلحتها، حتى لو تجاوز عدد المناصرين لعازار المقيمين في جزين عدد المقيمين العونيين في البلدة. وكان العونيون يزيّنون اقترابهم من الانتصار بحسب نسبة الاقتراع، معتبرين أن ارتفاع نسبة المقترعين ستسهل لهم تحقيق انتصار ثانٍ على عازار الذي أصر على المعركة هذه المرة، محاولاً استعادة زعامته الجزينية.


خفض سن الاقتراع إلى 18 شهراً

ملأ الأطفال شوارع جزين أمس: يوزّعون اللوائح، يلوّحون بالأعلام، يهتفون «بالروح بالدم نفديك يا جنرال»، يشتمون النائب زياد أسود، ويملأون مراكز الاقتراع أيضاً. بعضهم علّمته والدته تلوين أسماء المقترعين، وبعضهم تكفل بإعداد القهوة، وآخرون استفادوا من حصانة سنّهم ليوزعوا اللوائح داخل مراكز الاقتراع.
فجأةً، تناسى أهلهم أن الشمس الساطعة تضرّ، وأن اللعب بالعصي يوجع، وأن السيارات المسرعة يمكن أن تدهس الأطفال، فدفعوا بهم إلى أرض المعركة، يقاتلون معهم وعنهم، ليضمن العونيّ بذلك أن ابنه لن يعود يوماً إلى المنزل مدافعاً عن أفكار سمير جعجع، وليضمن القواتي أيضاً أنّ ابنه لن يصاب بـ«جنون» العونيين.
أنطوني لم يبلغ الثانية من عمره بعد. العالم كله لا يتسع لفرحة والدته. فهو بات يتقن ترداد «تاراتاتاتا جنرال»، وهو يعشق «الأورانج». تخيّلوا أنه يبكي طوال الليل ويرفض النوم إذا لم تستبدل والدته غطاء السرير الأزرق بآخر برتقالي! وهذا ليس كل شيء، فأنطوني يرفض أن يشرب المياه إن لم تكن سدة القنّينة برتقالية.
إيلي أسمر أكبر من أنطوني، وهو بالتالي يعرف أن يتكلم عن نفسه بنفسه. لا يرى مشكلة في تلويحه بعلم فرقة الصدم وقد عصب رأسه بعلم الكتائب. فرابط الدم يجمع الحزبين بالنسبة إلى الشاب الذي لم يتجاوز السادسة عشرة بعد. هو لم يرث العلم من أهله، بل اشتراه بخمسة آلاف ليرة من بائع للأعلام يشير إليه بإصبعه. لماذا اختاره من بين كل الأعلام: لأنهم يذهبون إلى حيث لا يجرؤ الآخرون، يقول فتى القوات. ما الذي يحمّسه في الانتخابات؟ محاربة سوريا وإيران، يجيب إيلي.
صديقته «قوّاتية أباً عن جَدّ» ودمها قواتي. لكن، أليس الشاطئ أجمل من شوارع جزين في يوم كهذا لصبية لم تتمّ الخامسة عشرة؟ أبداً، تجيب. فهي هنا تخدم القضية وتتابع مسيرة استشهد من أجلها الآلاف. يصعب مناقشة هذه الفتاة، ففي دقائق قليلة تسمع موسوعات من الدعاية القواتية.
بعيداً من هؤلاء، تسترق جوزفين النظر. هي ابنة عائلة مؤيدة للنائب السابق سمير عازار. تُسأل عن رغبتها في الانضمام إلى القوات أو التيار، فيخطف والدها الجواب: «نحن لا نحب الأحزاب، ما بيجي منها إلا وجع الرأس، نحن مع البيك». بعد الجواب، تتضاعف في عيني الصبية الرغبة في اكتشاف الممنوع. لكنها تستدرك، إرضاءً لوالدها مردّدة: «في الكشافة لدينا أيضاً ثياب ورايات وأناشيد، أنا أفضّل الكشافة».
اللافت في النقاش مع هؤلاء الأولاد أنهم كآبائهم لا يحمل أحد منهم أيّ مطلب. لا يسأل أحد عن نادٍ أو ملعب أو قاعة إنترنت أو بطولات رياضية، يطالب بها من يعمل لأجلهم.