strong>نادر فوز لم يقف الحاج أبو علي كغيره من الناس عند مداخل أقلام الاقتراع يدردش وجيرانه في موضوع الانتخابات، بعدما صبغ إصبعه باللون الأزرق. كذلك فإنه لم يعد إلى منزله ليجلس وعائلته أمام شاشات التلفزة ليتابع الاستحقاق البلدي. ولم ينتقل من منزل إلى آخر مسوّقاً لهذه اللائحة أو لذاك المختار. بكل هدوء وبساطة، حمل أبو علي مكبّرات الصوت وبعض أجهزة التسجيل البدائية، وخرج من بلدته «الخيام»، متوجّهاً إلى بوابة فاطمة.
قام أبو علي بوصل الكابلات اللازمة وباشر بإزعاج الجنود الإسرائيليين المختبئين في الدشم العسكرية التي تبعد أمتاراً عن الشريط الشائك. إلا أنّ الهدف ليس إزعاج الإسرائيليّين وحسب، فـ«السيّد قال، ستكون احتفالات وأعراس في الجنوب، فيما الإسرائيليون يقومون بمناورتهم ويدخلون الملاجئ». وفيما كان يبثّ ما تيسّر من أناشيد المقاومة، تابع أبو علي: «آخر همّنا الانتخابات». كل ما يهمّه هو الفرح والاحتفال بالانتصارات وذكراها. وها هو يدعو الصحافيين: «سيقام عرس بلدي بعد أقل من ساعة».
تحوّل الاهتمام إذاً من متابعة لائحة توافقية في هذه القرية ومعركة قاسية في أخرى. فثمة ما يترجم واقعياً وحرفياً، دعوة السيد حسن نصر الله إلى تحويل أجواء البلديات إلى أعراس. أما على الضفة الأخرى، فـ«لا حسّ ولا خبر» عن المناورة. فلم يسمع دوي صفارات إنذار، ولا حركة غير اعتيادية على الحدود.
وفيما كانت الفرق الإعلامية تصل تباعاً إلى بوابة فاطمة، وصل شبان يحملون لافتات صفراء علّقوها على الشريط الشائك. وهذا تعبير آخر عن الوفاء للسيّد حسن نصر الله، يشوبه بعض الغزل: «أبو هادي: الوطن يلمع في دفء عيونك».
وفي زحمة الأناشيد، وصل النائب علي حسن خليل إلى «بوابة الانتصار» بعدما ضرب موعداً مع إحدى الزميلات. لكن لا سبيل لإجراء تلك المقابلة، فيما أبو علي يطلق العنان لماكيناته. بعد التمني، خفض الحاج مستوى الصوت، وسمح للميكروفونات بالتقاط كلمات نائب المنطقة التي أكدت أن التوافق الحاصل بين حزب الله وحركة أمل هو أرقى أنواع الديموقراطية. وعن توقيت المناورة قال: «حتى لو لم يكن هذا التوقيت محدداً مع الانتخابات، لكن مصادفته هي لإرباك الساحة الداخلية اللبنانية. وأربع مناورات تحوُّل واجهناها بأربعة استحقاقات دستورية، وهذا ردّ على إسرائيل». ثم كانت إطلالة للنائب علي فياض، ومقابلة أخرى، دفعت ضابط الإيقاع، أبو علي، إلى القول: «أنا بأمركم، قولوا ماذا أفعل وسأفعل». أما النائب فياض، فأكد أنّ «المناورات الإسرائيلية ليس لديها أي تأثير يذكر، والمجتمع الجنوبي يعيش الاستحقاق الانتخابي البلدي كأنه عرس، وربما عاشه بالعزة والكرامة. وهو يستكمل هذا الاستحقاق البلدي».
انتهت المقابلات مع النائبين. عاد أبو علي وأشعل أجواء «البوّابة»، فيما طال انتظار الحدث ـــــ العرس الذي تحدث عنه. وأخيراً، مرّت دورية مؤللة للجيش الإسرائيلي عند الجانب الآخر من الشريط الشائك. ثمّ مرّت ثلاث سيارات رباعية الدفع، هامر، توقّفت كل منها بمقربة من الصحافيين. خرج أحد الجنود مزوّداً بآلة تصوير والتقط مجموعة من الصور للزملاء المنتشرين على بعد عشرات الأمتار من الشريط، فيما مرّ جندي آخر في آليته، وهو يقوم بـ«حركة الإصبع» الشائنة، فردّ عليه بعض الموجودين بالحركة نفسها، مطلقين التوعّدات والهتافات. تلك الحركة على الجانب اللبناني استدعت اهتمام أحد رجال الاستخبارات المدنيين، الذي سارع إلى نقل رسائل إلى دورية الجيش المتوقفة في المكان، فحضر العناصر وأجبروا الجميع على التراجع أمتاراً إلى الوراء.
بعد أكثر من ساعة ونصف ساعة من حديث أبو علي عن العرس، انضمّ إليه أربعة شبان، لاعبو مزمار وطبل وطبلة وزجّال. انتظرت فرقة «التراث» الآتية من شبعا، طويلاً، إلى أن بدأ عشرات المواطنين يحتشدون أمام ساحة «الانتصار».
أعطيت صافرة الانطلاق للعرس البلدي، رغم أن الحضور كان هزيلاً. بدأت الألحان الفولكلورية تخرج إلى الفضاء، فيما أسكت أبو علي مكبرات الصوت. دعوة من هنا وأخرى من هناك، ثمّ انطلقت حلقة دبكة دارت على مقربة من الشريط الشائك. استمرّت الدبكة لما يقارب نصف ساعة، ليعود روّادها إلى أماكنهم معيدين الساحة إلى صاحبها، الحاج الستيني.
بين حديث مع أبو علي وآخر مع عازفي فرقة التراث، استراحة قصيرة عند أحد المقاهي القريبة، حيث يدخل أحد جنود القوة السلفادورية التابعة لليونيفيل. يطلب عبر الإشارات ثلاثة أرغفة من الخبز العربي. يجمعها صاحب المقهى، ويضعها في كيس. وبواسطة الأيدي أيضاً، يسأل الجندي عن ثمن «تحويجته»، فيكتب البائع على آلته الحاسبة السعر. ثلاثة أرغفة بخمسة عشر ألف ليرة لبنانية. صيد ثمين بالنسبة إلى البائع، رغم وجود احتفال خارج مقهاه. وبينما كان الجندي يعود إلى إحدى آليات دوريته، كان أبو علي يلملم حاجاته وأجهزته، معلناً انتهاء العرس الانتخابي الطويل، وبدء مرحلة أخرى من إزعاج الإسرائيليين: اللافتات والصور باقية في مكانها.