أرنست خورييمكن الجزم، مع قليل من المجازفة، بأنّه بعد 31 أيار 2010، لن تعود العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية إلى سابق عهدها، و«لن يكون بالإمكان إصلاحها» تماماً، مهما حصل في الساعات المقبلة على صعيد الخطوات التركية إزاء مجزرة «أسطول الحرية». سبب الجزم أنّه للمرة الأولى، يدخل الدم إلى عمق العلاقات الثنائية بين الدولتين، والأنكى أنّ ذلك يحصل من البوابة الفلسطينية العزيزة على قلوب الأتراك.
لم يعد الحديث يدور عن «إهانة» تركيا أو المسّ بشعورها القومي... للمرة الأولى، تقتل إسرائيل مدنيين أتراكاً بدم بارد، وتجرح آخرين، وتأسر العشرات، مع سابق علمها ومعرفتها بأنّهم أتراك، بأمر من بنيامين نتنياهو.
الجريمة أشبه بإعلان حرب وانتقام، وسيجري التعاطي معها على هذا الأساس
والأدلة على أنّ الجريمة الموصوفة كانت مدروسة ومخطَّطاً لها، غير قليلة: فمن بين السفن الستّ التي كانت ترغب في الدخول إلى المياه الإقليمية الفلسطينية، اختارت قوات الاحتلال سفينة mavi marmara (مرمرة الزرقاء) التركية، لإجراء الإنزال الجوّي عليها. فهذه السفينة، هي الأكبر من بين زميلاتها، وتضمّ نحو 400 تركي إضافة إلى عدد مماثل من غير الأتراك، معظمهم قرروا التشبّث بسفينتهم وعدم تسليم أنفسهم لقوات الاحتلال. وتتمة القصة باتت معروفة: مثلما كانت mavi marmara وتركيا عموماً، «أم العروس» وصاحبة فكرة الأسطول وحملة التضامن مع غزة، كانت أيضاً «أم الشهيد» و«أم الأسير».
لا مبالغة في القول إنّ تركيا تنظر، وإن لم تُعلن ذلك رسمياً بعد، بعمقيها الشعبي والرسمي، إلى قتل مواطنيها وجرحهم وأسرهم على يد الجيش الإسرائيلي، على أنه إعلان حرب عليها، تتعدّى مفاعيله الرسائل السياسية التي شهدتها العلاقات الثنائية في الآونة الأخيرة، منذ «موقعة دافوس» ومناورات «نسر الأناضول» و«أزمة السفير» ومسلسل «وادي الذئاب»...
«إعلان حرب» يدرك الوجدان التركي أنه أشبه بالانتقام من طرفين: من حكومة رجب طيب أردوغان، ومن الشعب التركي. من حكومة أردوغان لأنها تسبب، منذ 2002، أوجاع رأس لم تتخيل إسرائيل يوماً أن تأتيها من حليف «مميّز» كتركيا. ومن الشعب التركي الذي أظهر درجة من التسيّس المعادي لدولة الاحتلال، قلّما تُرجَم في الدول العربية.
وبما أنّ القضية باتت تتعلّق بمصطلحات من نوع «الدم» و«إعلان حرب» و«الانتقام» و«شهداء» و«أسرى حرب»، كان لا بدّ أن يكون ردّ الفعل مدروساً للغاية من أنقرة، وغير مرتبط بـ«فورة الدم». هكذا، منذ ساعات الفجر الأولى، اتخذت ردود الفعل التركية مساراً تصاعدياً يتناسب مع حجم الجريمة، مع توقُّع أن تكون الساعات القليلة المقبلة حاسمة في تحديد وجهة هذا التصعيد ودرجته. وملامح هذه الوجهة بدأت تتضح، بما أنّ الموقف الذي سيعلنه أردوغان فور وصوله إلى بلاده، اليوم، سيكون «يوماً تاريخياً» من ناحية حدّته، وفق ما أعلنه كبير مستشاريه أمر الله هيشرال.
الرد التركي متصاعداً: إرهاب دولة قد يؤدّي إلى عواقب لا يمكن إصلاحها
هكذا، يمكن الجزم بأن التصعيد التركي لن يتخطّى سقفاً وحيداً، وهو أنّه، مهما بلغ مستواه، لن يصل إلى مستوى الرد على الجريمة بجريمة مقابلة، وكل ما هو تحت هذا السقف سيكون وارداً. انطلاقاً من هذه القاعدة، بدأت الخطوات التركية، منذ فجر يوم أمس، كلاسيكية: إدانة الرئيس عبد الله غول للجريمة التي وقعت على بعد 69 ميلاً بحرياً من المياه الإقليمية الفلسطينية، ثمّ استدعاء السفير الإسرائيلي غابي ليفي إلى وزارة الخارجية وتقديم احتجاج له. بعدها، حركة دبلوماسية مكّوكية: مسارعة حكّام أنقرة إلى قطع زياراتهم الخارجية للعودة إلى أنقرة ومتابعة التطورات. أردوغان، الذي لم يجد حرجاً في وصف الجريمة بأنها «إرهاب الدولة»، يصل ظهر اليوم إلى تركيا آتياً من التشيلي التي اختصر زيارته لها. كذلك فعل قائد الجيش إلكر باسبوغ العائد من القاهرة. اجتماع عاجل للحكومة برئاسة نائب رئيسها بولنت أرينش، ومطالبة بتحرير السفينة فوراً، وتمسك بحق تركيا بنقل مواطنيها الموجودين على متنها جوّاً إلى بلادهم. أعقب ذلك توجُّه وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو لاحتلال مقعد بلاده غير الدائم في مجلس الأمن في نيويورك، استعداداً لنقل القضية إلى المنظمة الدولية، بعدما طالبت أنقرة كلاً من مجلس الأمن وحلف شماليّ الأطلسي، بعقد جلسة طارئة. جلسة الأول جرت أمس، أما الاجتماع الأطلسي الطارئ فموعده اليوم في بروكسل.
وعلى وقع التظاهرات الشعبية الحاشدة، ألغت أنقرة 3 مناورات كان مقرَّراً أن يجريها الجيشان التركي والإسرائيلي، كذلك استدعت السفير التركي لدى دولة الاحتلال أحمد أوغز تشليك كول ليعود إلى بلاده. كل ذلك قبل أن تعلن أنقرة تعليق الرحلات البحرية مع تل أبيب. إجراءات جاءت لتترجم ما سبق أن جاء في بيان لوزارة الخارجية التركية، رأى أنّ «القرصنة الإسرائيلية غير مقبولة»، لأنها «خرق للقانون الدولي، ويُحتمَل أن تؤدّي إلى عواقب لا يمكن إصلاحها في علاقاتنا الثنائية».
كلام وغضب أدّيا إلى إلغاء رحلات إسرائيلية جوية وبحرية إلى تركيا، إضافة إلى تحذير حكومة بنيامين نتنياهو للإسرائيليين بعدم السفر إلى تركيا، ومطالبة الإسرائيليين الموجودين في تركيا، بالبقاء في فنادقهم ومنازلهم.