جان عزيزأكثر ما قد يُقال عظمة وكبراً، في السيّد محمد حسين فضل الله، أن العلّامة الراحل إنما قد تعلّم في جوهر فكره، من لبنان.
ذلك أن هذا الرجل الذي قدمته الصحافة اللبنانية لناسنا مطلع الثمانينيات في صور غلافية تحمل عنوان «خميني لبنان»، لم يلبث على مدى عقود ثلاثة، أن أثبت أن في لبنان لا يمكن أن يكون هناك إلّا لبنانيون. من أي مشارب أتوا، ومن أي مذاهب قدّوا فكرهم ومصادر وحيهم وإلهامهم والاعتقاد، يبقى الأكيد والثابت أن في هذه الأرض، وبعلّة من ناسها بالذات، ثمّة «شيء» ما، سماه منح الصلح ذات مرة «اللبنانية»، يبوتق كل شيء بطابعه، يسمه بهويته، يعيد صياغته بخصوصيته، ويحوّله لبنانياً، بالطابع، حتى ولو كانت الهوية الأعلى، أو ظلّت أوسع.
هكذا كان «السيّد». بين أحزمة الفقر والبؤس والحرمان، من شرق الضواحي إلى جنوبها، بلور ـــــ كما كل «أيديولوجيي» المراحل الأولى للأدلجة، فكراً يحمل «الحقيقة الواحدة»، ومشروعاً يركن إلى تلك الحقيقة الأحادية.
منذ بداياته، كان إسلامياً وحركياً. حتى إن مفهوم «الإسلام الحركي» بدا أنه من عنده، أو فصّل له ولحركته وإسلامه. وفي حركيّته الإسلامية تلك، ذهب السيّد في بداياته حتى الأخير، حتى «طرف» اللعبة، فبادر إلى طرح «الجمهورية الإسلامية» أو «الدولة الإسلامية» نظاماً للبنان، ولمسيحييه أيضاً وخصوصاً. في تلك البدايات كتب السيّد لمسيحيي لبنان أنْ تعالوا نتحاور بشأن تلك الجمهورية أو الدولة وبشأن أمر إقامتها في لبنان بالذات، «ذلك أن الإسلاميين في أقطار العالم يقدمون الإسلام كمنهج متكامل يطل على الجانب الروحي وينفتح على الجانب المادي لحل مشكلة الإنسان، مسلماً كان أو غيره». وأكد السيّد أن «عودة الإسلام إلى الحكم هي من المسائل الأساسية في هذا الاتجاه». وكان لافتاً في فكره آنذاك اعتباره أن «المسيحية تعاني فراغاً في مسألة القانون والحكم والحكومة والسياسة»، وهي بالتالي لا يمكن أن تجد في طرح «الدولة الإسلامية» نقيضاً لطرحها.
حتى إن السيّد كتب مؤلفات عدة وشروحات، تعرض وجهة نظره الخاصة، وغير المسلَّم بها مسيحيّاً طبعاً، عن كيف أن «المسيحية لا تتبنّى نظرية سياسية في الحكم والإدارة (...) وليست لها خطة سياسية (...) وهذا ما جعل المسيحيين يتّجهون نحو أنظمة أخرى لا تعني المسيحية بشيء». حتى إن السيّد وجّه إلى مسيحيي لبنان في تلك البدايات أسئلة واضحة، من نوع: «لماذا يقبلون في لبنان من الناحية الرسمية، بإمكانات دولة ماركسية أو قومية أو اشتراكية، ولا يقبلون بإمكانات دولة إسلامية؟». وبلغ في طرحه حد البحث التفصيلي في كيفية معالجة «الأمور العالقة»، من «دفع الجزية»، إلى «وصول المسيحيين إلى مراكز السلطة في الدولة الإسلامية...».
ومرّت الأيام، وتعرّف لبنان أكثر إلى السيّد، وتعرّف هو أكثر إليه، إلى ناسه وجماعاته وتوازناته وسياقات داخله وخارجه، ودقة تجربته وفرادة ميثاقيته... فصار كلام السيّد ينحو أكثر إلى الدين، كإيمان إنساني جامع، على قاعدة أن «الدين هو فطرة الإنسان، ولا يمكن أن يلغيه أحد»، وعلى أنه «الانتماء الطبيعي للإنسان»، وأنه «الأقوى على مستوى المشاعر والأحاسيس والعادات والتقاليد»، وأنه «لا يمكن أي نظام أو فكر أن يلغي الدين من حياة الإنسان».
لكن، مع هذا التركيز الديني الجامع، بلغة تحاكي الأنتربولوجيا، دخل «الحوار» خطاب السيّد، لا بل راح يتمدد في أدبياته فصارت عنده «الحقيقة بنت الحوار»، وصارت «حرية الفكر منطلقاً لأول حق إنساني». وذهب حتى الجزم بأنه «في الإسلام ليس هناك حاجز للفكر»، وأن «لا محرّمات ولا مقدسات في الحوار»...
تلبنن فكر السيّد، مع حفاظه على كل طبقاته «الهوياتية»، تماماً كما فعل في الحقبة نفسها الراحل الآخر الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي انطلق من «الديموقراطية العددية» مشروعاً في منتصف الثمانينيات، «لدولة لبنان ذات البعد الإسلامي»، ليبلغ كتابه «الوصايا»، وما فيه من «لبنانية» ميثاقية تكاد توصف بالمتطرفة... تماماً كما قال السيّد حسن نصر الله إنه فعل، حين واجهه بعض الصغار بتسجيلات من السبعينيات... تماماً كما يفعل كل صاحب عقل وإيمان في هذا المختبر الغريب الاسمه لبنان...
مع رحيل العلّامة المرجع السيّد، أكبر ما قد يقال عنه، أنه تعلّم من لبنان، فصار من أعلامه ومعالمه، وصار بعضاً من روح العِلم والعَلَم.