كامل جابر مسافة ثوان فقط، مرّت كأنها دهر، فصلت بين وصول زميلنا عساف أبو رحال إلى موقع الجيش اللبناني في العديسة، وبين استشهاده. فتح عدسته المتواضعة لالتقاط صورة لدبابة الميركافا التي حوّلت نهار العديسة ومنطقتها إلى ساحة حرب، وقبل أن يضغط على الزر، فتكت القذيفة بجسده النحيل الذي لم يتزوّد بغير دفتر وكاميرا أراد من خلالها التقاط بعض مشاهد العدوان، فالتقطته.
حافزان اثنان أخذا بقدمي زميلنا عساف إلى ساحة الوغى، قبل أن تبترهما القذيفة الحاقدة. إيمانه بعمله الصحافي، وإدراكه أن العدو الإسرائيلي لا يحتاج إلى مبرّر حتى يحوّل المنطقة الجنوبية، التي ينتمي إليها إلى جحيم من الدمار والقتل المتعمد. أراد أن ينقل الصورة والمشهد على عادته، فصار هو الصورة.
في الثانية والدقيقة السابعة بعد الظهر وصل عساف أبو رحال سيراً على الأقدام إلى المدخل الشرقي لبلدة العديسة، حيث يقع حاجز الجيش اللبناني، بعدما ركن سيارته قرب الساحة عملاً بنصيحة عدد من أبناء العديسة الذين حذّروه من خطر الوصول بالسيارة إلى التلة المكشوفة على المواقع الإسرائيلية. توجه مباشرة نحو «دشمة» كان يتجمهر حولها عدد من الضباط والجنود، الذين يراقبون حركة الجنود الإسرائيليين ودبابة الميركافا، التي لا تبعد أكثر من مئة متر عن موقع الجيش. ما كاد يصل إلى الدشمة، حتى هوت قذيفة حوّلت المكان إلى دخان، لحظات قليلة، صارت طويلة من الرعب وصراخ الجرحى، لينقشع الغبار ويتبين سقوط عدد من الشهداء.
هرع الجنود وعناصر من الدفاع المدني لسحب الجرحى من المكان. هرعت أنا الذي كنت أقف في الخلف، أبحث عن عساف. تحدثت عن أوصافه لمن تمكن من الوصول إلى الأمام حيث سقط الشهداء والجرحى، وأخبرتهم أنه مرّ قبل لحظات من هنا. المعلومة الأولى كانت أن مدنياً بين الجنود، تحول إلى أشلاء، ربما هو عساف أبو رحال... بقيت جثته نحو نصف ساعة وسط الدمار قبل أن يتمكن عناصر الدفاع المدني من سحبها.
إلى مكتب الجنوب في جريدة «الأخبار»، انتسب عساف أبو رحال في أيار عام 2006، قبل صدور الجريدة وقبل عدوان تموز وآب؛ ومن بعدها صار مراسل منطقتي حاصبيا ومرجعيون. يوم وقع الاختيار على زميلنا عساف، وكنت مديراً لمكتب الجنوب، كان مراسلاً لصحيفة المستقبل. ومعروف بين الزملاء في منطقة مرجعيون وحاصبيا، كم يتمتع عساف أبو رحال «أبو مازن» بمناقبية وأخلاق دمثة وروح محبة والتعالي على الذاتية والانفتاح على الجميع، وكان فعلاً الرجل المناسب في المكان المناسب.
في المكان الأنقى والأطهر، سقطت يا زميلنا، وأنت في عزّ عطائك وبسالتك المهنية، وهذا دأب الرجال والأبطال، يستشهدون في ساحات الوغى دفاعاً عن الحق والأرض.