برجاءٍ لن يفهم مغزاه قبل إتمام القراءة «رجاءً (أتوسّل إليكم) لا تستخدموا هذه الصفحات كوسيلة تعذيب تربوي»، يبدأ الكاتب الفرنسي دانيال بناك كتابه «متعة القراءة» الذي انتقل أخيراً إلى العربية (دار الساقي - ترجمة يوسف الحمادة). القراءة بالنسبة إلى بناك هي فعل متعة قبل كل شيء. ولكن من منّا لم يقف طويلاً أمام مئات العناوين التي تغصّ بها مكتبته يعتصره شعور بالذنب لعدم تمكنه من قراءتها جميعاً حتى الآن؟ وكم سيتفاقم هذا الشعور إذا أضفنا إلى المكتبة آلاف العناوين التي لم نتمكن بعد من الحصول عليها، والعناوين التي نصحنا بها أصدقاء أو عزموا على إهدائها لنا؟ هذا إضافةً إلى المكتبة الالكترونية الهائلة التي باتت في متناول أيدينا، من دون أن ننسى الكمّ الكبير من الكتب التي لم نتمكن من إتمام قراءتها، وتلك التي شعرنا بالملل ونحن نقرأها، وخجلنا من الاعتراف بذلك بسبب الآراء التي أجمعت على أنّها عظيمة.
مشاعر كثيرة تواطأ القرّاء، عبر التاريخ، على كتمانها خجلاً من قرّاء آخرين يشعرون بالمشاعر ذاتها ويكتمونها أيضاً، حوّلت فعل القراءة، من دون دراية منهم، إلى فعل تربوي يمتلك قواعد صارمة، يجب على كلّ قارئ الالتزام بها كي لا تسقط عنه صفة القارئ. أمر يفقد القراءة غايتها الأساسية، وهي المتعة قبل كلّ شيء. ورغم أنّ الفكرة ليست بجديدة، تناولها الكثير من الكتاب على مرّ العصور، إلا أنّ بناك قرّر في «متعة القراءة» الخوض في جذور فعل القراءة الذي يبدأ عادةً منذ الطفولة، حين يبدأ الطفل بالإصغاء إلى الحكايات التي يرويها له والداه. هي اللحظات الأولى لولادة القارئ «الكيميائي»، كما يعنون بناك هذا الفصل من «رواية القراءة»، فكتابه وإن كان بحثاً علمياً يستند إلى تجارب شخصيّة، إلّا أنّه اختار له شكلاً سردياً أقرب للشكل الروائيّ، كما يتضح من العنوان الفرنسي للكتاب (Comme un roman). الطفل (القارئ الصغير) يبدأ فعل القراءة كمتلقٍ، ليتحوّل إلى قارئ حين يأخذ بالمطالبة بالحكايات، تمهيداً ليكون القارئ الحقيقي عندما يستغني عن الرواة ويمسك الكتاب بيديه. هنا، سيبرز تحدّ كبير يتمثّل في آلية صمود فعل القراءة، دون أن يكون واجباً، في عصر الصورة التي يحتلّ فيها التلفزيون ووسائل الإعلام الحديثة صدارة المشهد، وتتمتّع بخصائص قد تفوق قدرة الكتاب على الصمود أمامها، لعلّ أهمها قدرتها على إيصال المعلومة من دون عناء القراءة. لكن هل حقيقي أنّ فعل القراءة هو عناء؟

اختار لكتابه شكلاً سردياً أقرب إلى الشكل الروائي
أم أنّ العناء ينجم عن القيام به كواجب مفروض؟ هنا يسخر بناك من قواعد التربية، التي تفرض على الطفل نمطاً حياتياً يقوم على منعه من مشاهدة التلفزيون مقابل ملء وقته بالأنشطة المفيدة، كالموسيقى، والرياضة، وصناعة الفخار، والرحلات الترفيهيّة... مع الحرص على إعطائه تعليماً كاملاً لا ينقصه شيء. وبذلك يتمّ القضاء تماماً على لحظات «الملل الجميل، الملل الطويل، الذي يجعل كلّ إبداع ممكناً». كلّ ذلك مردّه، حسب بناك، إلى التعامل مع فعل القراءة كـ»عقيدة لا تناقش» تقوم على أننّا «كي نتعلّم، كي ننجح في دراستنا، كي نعلم ما يجري في العالم، كي نعلم من أين جئنا، كي نعلم من نحن... يجب أن نقرأ». بسرد روائي رصين، وخفيف الظلّ، يشرح بناك آليات بسيطة يمكنها أن تدفع، حتّى الأشخاص النفورين من القراءة، ليتحوّلوا إلى قرّاء شغوفين، سارداً حكاية الـ 35 طالباً الذين استطاع المعلّم، عبر طريقته البارعة في القراءة، أن يجعلهم من محبّي ماركيز، وكالفينو، وستفنسون، ودوستكويفسكي... كما جعلهم شغوفين لمعرفة ما تحكيه «مئة عام من العزلة» وكيف ستنتهي رواية «العطر» ويصرخون «رائعة» لدى قراءة «قصّة موت معلن». يمضي بناك نابشاً خفايا القارئ، واضعاً أمامه، بشكل سافر، كلّ العقد التي يعانيها عند القراءة، بدءاً من بحثه عن فقرات الحوار في النصوص الروائية كي يشعر بأنه يقرأ بسرعة، مروراً بالصفحات التي يتجاوزها عند القراءة وهو يؤنّب نفسه، وصولاً إلى معاقبة نفسه بإتمام كتاب يشعره بالملل، لكنه لا يجد مبرراً أخلاقياً لعدم إتمامه. يشرح بناك كلّ ذلك ليصل إلى وصاياه العشر التي يسمّيها «حقوق القارئ الدائمة»، مستوحياً تسميتها من الوصايا المسيحية مع اختلاف جوهري عنها. بينما تبدأ الوصايا العشر بفعل «لا»، يبتدئ بناك وصاياه بفعل «يحق» وخلاصة هذه الوصايا: «الحق في عدم القراءة، الحق في القفز عن الصفحات، الحق في عدم إنهاء الكتاب، الحق في إعادة القراءة، الحق في قراءة أي شيء، الحق في البوفاريّة، الحق في القراءة في أي مكان، الحق في أن نقطف من هنا وهناك، الحق في القراءة بصوت عال، الحق في أن نصمت». عشر وصايا يوردها بناك في نهاية كتابه الممتع كفيلة بأن تعيد لفعل القراءة رونقه، وتجعله فعلاً ممتعاً خارج الأساليب التقليديّة، والمناهج التربوية الصارمة، وبعيداً عن القوالب مسبقة الصنع.