ريتا فرج كأنّ رحيل العلّامة محمد أركون المباغت هو بمثابة اغتيال للعقل العربي الناقد. مَن هم ورثته من المجدّدين العرب الذين اجتهدوا في زعزعة اليقينيات والدوغمائيات العقائدية؟
العالِم الجزائري وأستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في «السوربون»، قارع المسكوت عنه في الإسلام التاريخي. أسّس لمشروع نقد الفكر الإسلامي في أكثر من أطروحة أثارت جدلاً ثقافياً قلّ نظيره بالنسبة إلى أقرانه ممن حفروا في أركيولوجيا التاريخ. تعود مكانته المعرفية والأكاديمية إلى كونه اعتمد في قراءته للنصوص التأسيسية على المناهج الغربية الحديثة، من اللسانيات والسيميائيات، وصولاً إلى وضع الظاهرة المدروسة ضمن سياقها الزمكاني. كلّ أدواته النقديّة وظّفها لإخراج الإسلام من الدوغما التي تكبّله.
«الإسلام أوروبا الغرب»، و«العلمنة والدين»، و«الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، و«الأنسنة والإسلام مدخل تاريخي نقدي»، أطروحات صاغها صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي على مدار عقود، وبذل جهده الفكري في تأكيد حيوية «الحدث الإسلامي» و«الحدث القرآني» ـــــ لجهة الحركية، والتفاعل مع المتحوّل ـــــ بعدما ميّز بينهما، من دون أن يعني ذلك أنَّه لم يموضع «القرآن» في تجلياته التاريخية. تحرّى أركون بعقل العقل عن المسبّبات التي عاقت محاكاة الإسلام للعصر، كما فعلت المسيحية الغربية حين أعدّت عدّتها مع ديكارت، رائد العقلانية الأوروبية.
المقارنة بين «الديانات التوحيدية الثلاث» ـــــ وهو المصطلح الذي ابتكره صاحب «نحو نقد العقل الإسلامي» ـــــ مثّلت أحد أبرز المناهج التي عمل عليها، بعدما خلص إلى أنّ الحقبة التي يمر بها الإسلام الراهن لا ترتبط فقط بالتفسيرات الخاطئة للنص المقدس. الإسلام اليوم يعيش الأزمة نفسها التي خبرتها المسيحية الغربية في قرونها الوسطى، حين «أجبرت بعد مقاومات عنيدة وتأخر زمني، على هضم مكتسبات الحداثة العلمية والفلسفية والقبول بها».
منذ خرقه المسكوت عنه في إسلام النص وإسلام التاريخ، كرّس أركون جهده الأكاديمي (نقلت غالبية كتبه إلى العربية عن «دار الطليعة» و«الساقي» بجهد تلميذه هاشم صالح) في التحري الأنثروبولوجي والأركيولوجي عن العوامل التي تعوق المواءمة بين الإسلام والحداثة، متأثراً بطريقة فوكو. لم يكتفِ بهذا الحدّ، بل رأى أن الإسلام لا يتناقض مع العلمانيّة، لأنّه خبرها منذ التأسيس لأواصر الدولة الأموية تحت عنوان «إيديولوجيا التدبير»، لتبلغ ذروتها مع الفكر المعتزلي (المذهب الرسمي في عهد الخليفة المأمون). «فالإسلام بذاته ليس مغلقاً على العلمانية»، لكنّ الدوغمائيات المعاصرة أوصلته إلى الانسداد اللاهوتي الراهن.
على إيقاع اللطف الإلهي الذي يعني بالمعنى القرآني «نور العقل»، جادل أركون عقائد الانغلاقيين الذين مثّلوا امتداداً للأشاعرة. هو شديد التأثر بالمعتزلة، روّاد الاجتهاد.
يمثّل أركون حلقة الوصل التاريخية لمعارك الإصلاحيين من أمثال الأفغاني والكواكبي وعلي عبد الرازق ومحمد عبده التي تابعت مسيرتها مع طه حسين ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وعبد الله العروي وهشام جعيط. لم ترهبه يوماً فوضى العنف باسم الإسلام. الواقع المأزوم فرض عليه خوض معركة الفكر على أكثر من جبهة. التحديث بالنسبة إليه حاجة ملحة، وقراءة التراث وتأويله يحتاجان إلى قواعد تستنطق النص المقدس. قواعد لا يفقهها سوى الحداثيين، أو الحركيين كما يصنِّفهم الراحل السيد محمد حسين فضل الله.
أركون الذي تمرَّس في دراسة ظاهرة الوحي القرآني بمدلولها التاريخي، كان السبّاق في هذا المجال. الاتجاه الإسلامي الرسمي الذي لا يقبل تاريخية الوحي والقرآن، لا بد من أنّه انزعج من اجتهاداته. غير أن المواءمة بين القرآن والتاريخ، وبين الإسلام والحداثة، لم تكن وحدها التي شغلته. ردَّ على بعض المستشرقين الذين شوّهوا صورة الإسلام في الغرب كرمز للعنف واضطهاد المرأة. كانت له في هذا المجال أفكار علمية من دون أن يدخل في جدلية هدم علم الاستشراق وتصويره في السياق الإمبريالي كما فعل إدوارد سعيد في أطروحته الشهيرة.
يكرّس المسار المعرفي عند أركون جهده لإدخال علم الإسلاميات التطبيقية على التراث، بغية تفكيكه وتعريته من الأوهام التي تكبله، وهو في هذا المجال تأثر بمدرسة الحوليات الفرنسية وأضاف إليها مناهج جديدة. لقد فاجأنا أركون برحيله، تاركاً إرثاً علمياً لا يوازيه فيه أحد من ناحية الإعداد لمشروع متكامل عنوانه نقد العقل الإسلامي.