كان كتابي الأول شعرياً، ديواني «مرافئ المدن البعيدة» المطبوع عام 1974 بمساعدة من وزارة الإعلام في بغداد، رغم أن أغلب قصائده تعود إلى فترة الستينيات والنصف الثاني منها تحديداً. هي مخاض تجربة حياتية مهمة، إذ لم أكن قد أتممت عامي الثالث والعشرين حين ذهبت للتدريس في عدن عام 1968، بعد عام من استقلال الجنوب اليمني عن الاحتلال البريطاني الذي دام 128 عاماً. فتى مملوء بالأحلام والتصورات عن بناء اليمن الجديد الذي أخذ اسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
كنت كأغلب مثقفي وكتاب جيلي الستيني قد بدأت حياتي الأدبية في الجامعة شاعراً. نشرت لي «مجلة الآداب» إحدى قصائدي وأنا طالب جامعي؛ فكان لهذا أثر في دفعي لمواصلة تجربتي الشعرية التي اخترت فيها منذ البداية أن أكتب بطريقة الشعر الحر رغم قراءتي الشغوفة للتراث الشعري. أفكار اليسار القومي التي استحوذت على تفكيري أخذتني لترجمات شعرية متقدمة جعلت قصيدتي تتميز ببعد ثقافي تحضر فيه الأساطير والرموز: قديمة ومعاصرة. وتعمقت في عدن تلك التجربة رغم أنني بدأت أميل للكتابة النقدية في السنة الجامعية الأخيرة، وبباكورة أعمالي التي كانت دراسة مبكرة عن «المزايا الفنية في شعر السياب» وحظيت بتشجيع قوي من الدكتور ماهر حسن فهمي أستاذ النقد والأدب الحديث الذي رأى أن مستقبلي في النقد لا الشعر، ما اعتبرته في حينه إحباطاً لما كنت أعول عليه من الكتابة الشعرية التي احتدمت في الستينيات اتجاهاتها وتنوعت أساليبها وتفجرت ينابيعها التحديثية.
كان السفر أمراً استثنائياً على المستوى الأسري. ربما كنت أول الأفراد المقيمين خارج العراق من عائلتي كبيرة العدد. ولم يكن لثقافة الهجرة مكان في العراق آنذاك ولم يكن لدواعي الهجرة حضور حينها. ذلك العراق الذي ستغدو مغادرته بعد عقود حلما يغامر من أجله ملايين العراقيين الذين سترهقهم الحروب المجانية والدكتاتورية والاحتلال والموت اليومي وتدني مستلزمات الحياة.

قام صديقي سامي العتابي
الذي استشهد في ما بعد في سجون «البعث» بتصميم الغلاف، وحصل لي على لوحة للفنانة عفيفة لعيبي لتكون غلافاً أمامياً

وجدت نفسي فجأة في عدن: بحرها وميناؤها. حرها الذي يفوق التصور ورطوبتها. جبالها وجزرها. ثقافتها المختلفة في كل شيء: اللباس والطعام واللهجة والعادات. كان ذلك يعزز من تشبثي بالشعر ولجوئي للقصيدة منفذاً ومنقذاً. منفذاً لتسريب مشاعري المختلطة دهشة وغربة، ومنقذاً من وحشة أحسستها كوني أفارق مكاني الأول وأهلي وفي عمر مبكر، حيث لا تجربة لي في السفر قبل ذلك ولصعوبة التواصل آنذاك. كنت أكتب القصائد بتأثر واضح بالبياتي رغم أنني معني بشعر السياب ومنبهر بتجربته وكشوفاته وريادته وما أدخله في القصيدة الحديثة من تقنيات فنية راقية وجملة شعرية معافاة على مستوى البناء اللغوي والصوري، وما احتشدت به قصيدته من ثقافة عالمية، من مظاهرها البارزة الجديدة: الرموز والأساطير والشعور الأممي الذي يجعل العالم واحداً في إطار القصيدة ومتصلاً من حيث الزمن. لكن تجربة البياتي الحياتية وقصيدته المباشرة الضاجة باليوميات والبساطة الإيقاعية والدلالية كانت أقرب أثراً واقوى في اللحظة العدنية التي عشتها. وقد قمت بزيارة قصيرة لصنعاء في عطلة الصيف سمحت لي برؤية وجه آخر لليمن تمثله صنعاء بتقاليدها الصارمة وثقافتها المختلفة وطقسها وطقوسها، واستوقفتني بشكل خاص صنعاء القديمة التي ظلت طوال عقود تحتفظ بطابعها المعماري المميز، وبسورها الطيني الذي يحيط المدينة قبل أن تتوسع وتتمدد خارجه.
حين أستذكر الآن ديواني الأول هذا أرى أن الشاعر في داخلي قد مهد بمقدمة صالحة لأن تستمر تجربتي في الشعر لو توفرت عليها بكدٍّ أكثر، وقاومت غواية النقد التي تلبستني بعد ديوانين منشورين؛ لأنصرف كلياً إلى قراءة القصيدة نقدياً، والحماسة للتحليل النصي، وهو ما حاز شغفي وهوسي طوال فترة السبعينيات وما تلاها. تتحدث فدوى طوقان في أحد كتبها عن ديوانها الأول الذي لم تنم الليل بانتظار النسخة الأولى منه، لكنها حينما ستراه معروضاً في واجهة إحدى مكتبات القاهرة بعد سنين فإنها ستشيح بوجهها عنه خجلاً، وكأنه خطيئة تعجلت بارتكابها. لم يساورني هذا الشعور بصدد ديواني الأول هذا، حتى وأنا أقلب صفحاته لأستعيد أجواء نصوصه الآن، بعيداً في الزمن قرابة أربعة عقود، وفي المكان بآلاف الأميال. لقد بذلت جهداً أحسست فيه بالسعادة وأنا أتابع طباعة الكتاب في «مطبعة الغري الحديثة» في النجف التي يملكها حميد المطبعي محرر مجلة «الكلمة»، ذات النزعة الطليعية المعروفة في العراق في فترة الستينيات والسبعينيات، قبل أن تغلقها السلطات بدعوى منع الصحافة الأهلية واحتكار الدولة للنشر حصراً.
كنت قد عدت إلى العراق بعد ثلاث سنوات من إقامتي في خورمكسر في عدن مدرساً في ثانويتها المطلة على البحر والتي أسكن قريباً منها. أسمع صيحات الموج وأشم رائحة السمك المختلطة بأعشاب البحر، وما يتركه الجزر بعد انسحاب الموج من نباتات وكائنات بحرية. المراكب والسفن في الميناء الكبير، والظلمة التي يهبها منظر البحر ليلاً والشمس التي تشرق مبكراً ليوم طويل في عدن التي لا شتاء فيها. سواحلها وصخورها وجبالها المحاذية للبحر وأسواقها المختلطة الروائح: بالكاذي والشقر والفل والتوابل والأسماك. شيئاً فشيئاً اعتدت كل ما فيها. صرت أحسها أليفة ودودة رغم جوها الذي وصفه آرثررامبو بالجحيم. كل ذلك بجانب الشوق المعتاد للأهل والأصدقاء وما يصلني من رسائلهم وأخبارهم كان مادة لقصائد الديوان إلى جانب نصوص أخرى كتبت في بغداد. جمعت القصائد واتفقت بمشورة الأصدقاء مع حميد المطبعي لأدفع له معونة الوزارة المالية لقاء عدد من نسخ الديوان. قام صديقي سامي العتابي الذي استشهد في ما بعد في سجون «البعث» بتصميم الغلاف، وحصل لي على لوحة للفنانة عفيفة لعيبي لتكون غلافاً أمامياً. كنت أنزل من واسط حيث أعمل مدرساً لأراجع بروفات الديوان في النجف، وأعود في اليوم نفسه إلى بغداد حيث الأهل لألتحق بعملي في اليوم التالي. حصلت أخيراً على نسخي من الديوان. كانت طباعته وإخراجه وغلافه شيئاً مذهلاً حتى أن الشاعر عبدالوهاب البياتي سألني وأنا أهديه نسخة من الديوان وهو يجلس في إحدى مقاهي شارع أبي نؤاس إن كان الديوان قد طبع في بيروت، لما كانت تتمتع به من مزايا طباعية معروفة عربياً. لم تدم فرحتي طويلاً. فقد كلفني المطبعي بكتابة مقدمة لعدد خاص من «مجلة الكلمة» عن شعراء السبعينيات خلال مراجعتي للديوان. لكن المقدمة ظهرت بتوقيع المجلة من دون ذكر اسمي ككاتب لها. نشرت إيضاحاً في جريدة «طريق الشعب» واتهمت المطبعي بسرقة جهدي. لكنه رد بأن ذلك قد تم بالاتفاق معي كجزء من طباعة الديوان، وهو ما لم يحصل. بعد سنوات نشرت المقدمة في كتابي «مواجهات الصوت القادم» الخاص بشعر السبعينيات- دراسة ومختارات، وشعرت أنني استعدت حقي بذلك. قراءة الديوان تعطي منظوراً عن ثقافة القصيدة الستينية ذات المنحى اليساري. فقد اخترت أبياتاً لناظم حكمت لتكون مدخلاً للديوان وهي:
أجمل البحار ذاك الذي لم نذهب إليه بعد/ وأجمل الأطفال من لم يكبر بعد/ وأجمل أيامنا تلك التي لم نعشها بعد/ وأجمل ما أريد قوله لك لم أقله بعد.
كما ضم مراثي للمهدي بن بركة وغسان كنفاني وبيكاسو وعن أيلول وحزيران وشهور الانتكاسات العربية وعن الفقر والظلم والحريات الغائبة. كنت أحاول استيعاب أجواء عدن فكتبت (خاطرة صغيرة في ميناء عدن الكبير): أرصفة الميناء/ الليل والأضواء/ وضجة السفن/ تقذف بالسياح/ لأذرع المدن/ والليل والأضواء/ أرصفة الميناء/ شوارع الصمت بلا انتهاء/ وأرجل السياح/ تضيق بالمدن/ وبحّة الأشعار والجراح! ووثقت صورة لصنعاء التي رأيتها: يدور عليها من الطين سور فتمضي معه/ لتقرأ عبر المدار المحنط آياتها/ وما أودعته القبائل من إرثها/ وتقفل حتى الصباح المعفر بالموت أبوابها الأربعة/ وصنعاء أخرى وراء الشجر/ تنفّض عن ريشها الطل مثل حمامه/ وتطوي سهول تهامه/ تظل لتشدو وتشدو وتشدو/ و... حتى القيامة! كيف خنت قصيدتي وتمردت على هاجس الشعر بداخلي وذهبت للنثر والكتابة النقدية غير بعيد عن النص الشعري؟ لذلك كله حكاية أخرى لا تنفي عذوبة الكتاب الأول الذي فوجئت عند عودتي الثانية الطويلة إلى اليمن مدرساً في جامعة صنعاء أن طلبة يمنيين جلبوا من العراق نسخاً من الديوان، وجدت إحداها في «مركز الدراسات والبحوث اليمنية».