البارحة، حين وقف بوريس جونسون في مجلس العموم البريطاني ليعلن رفع أغلب القيود الصحية المفروضة لمواجهة كورونا مع انتهاء نهار الأربعاء المقبل، حدث تفصيل صغير له دلالاته. فبالإضافة إلى أصوات الاستهجان التي لم تتوقف طوال خطابه، خرجت من خلفية المشهد ضحكة مستهزئة، بالتحديد عندما أعلن أن الحكومة قررت إلغاء إجبارية وضع الكمامة؛ وقد كان كل من خلفه يضعها.
هذا التفصيل، إن دلّ على شيء فإنه يشير بوضوح إلى التسرع في هذا القرار، وخاصة أن بعض وزرائه كانوا من ضمن المستهزئين. واضح أن هذا القرار جاء مبكراً جداً، فلم ينتظر حتى تمرّ الموجة الحالية من الوباء، وبريطانيا لا تزال تسجل أكثر من مئة ألف حالة إيجابية يومياً.

لكن يبدو أن الأمر ملحّ وله اعتباراته السياسية الضاغطة، فجونسون يرزح تحت انتقادات شديدة لمواقفه وكيفية تعاطيه مع الوباء والقيود منذ البدايات. لم يستطع أخيراً إنكار حضوره حفلاً نُظّم في مقر رئاسة الوزراء أيام الإغلاق، في خرق فاضح لإجراءات الوقاية التي كانت حكومته قد فرضتها. هذا عرّضه لسخط كبير، حتى من داخل حزبه؛ فالنائب البارز للمحافظين، ديفيد ديفيز، طالبه بالرحيل. ولم تنفع اعتذاراته المذلّة مع عدم قدرته على إنكار الحادثة، في التقليل من غضب مواطنيه. حتى إن صحيفة «غارديان» عنونت بأن خطة رئيس الوزراء البريطاني للاعتذار «فشلت وسلطته أصيبت في مقتل».

لا ننسى أن جونسون منذ بداية الجائحة، لم يكن من أنصار اللجوء إلى الإغلاق، فقد كان من زعماء الدول القلائل الذين راهنوا على عدم اتخاذ أي إجراءات تعيق الاقتصاد. تسلّح حينها باستشارات علمية تحدثت عن إمكانية الوصول إلى مناعة القطيع إذا ما انتشرت العدوى بين الناس. لكنه عاد وأجُبر، تحت ضغط الكلفة البشرية العالية والضغط الهائل على النظام الصحي في بريطانيا الذي كاد ينهار بسبب إشغال أقسام العناية الفائقة بمرضى كوفيد 19، على الالتزام بتوجيهات وتحذيرات منظمة الصحة العالمية بإعلان الإغلاق كما سائر دول العالم.

يأتي قرار رئيس الوزراء المحافظ متناغماً مع سياسة اليمين العامة بتقديم الاقتصاد على ما عداه من مسائل أخلاقية واجتماعية. فهو يستغل التقارير التي خرجت أخيراً حول سيطرة أوميكرون، المتحور الأكثر اعتدالاً، دون أن يكترث لانتشاره السريع وقدرته على التحور. هذا دون إغفال المتحور الآخر «دلتا» الذي لا يزال موجوداً ولو أن نسبته لمجمل الإصابات أصبحت قليلة.

انتشار أوميكرون والنسب العالية للتلقيح في بريطانيا هما عاملان في مصلحة رهانه على مناعة القطيع. هذا الرهان الذي يبدو مبرراً أكثر مما كان عليه منذ سنتين مع بداية الجائحة، لكنه يبقى متسرعاً وفيه كثير من الشعبوية (التي يحتاج إليها جونسون سياسياً في هذه المرحلة) على حساب الاعتبارات الصحية والأخلاقية. الاقتصاد البريطاني، كما اقتصادات باقي دول العالم، تضرر كثيراً وهذا القرار سينعشه بالتأكيد. وزير الصحة في حكومة جونسون، ساجد جويد، قالها صراحة «إن الفيروس باق معنا»، بما يتضمنه ذلك من الدعوة إلى التأقلم معه.

ماذا عنّا في لبنان؟ هل يمكننا اعتماد خيارات مماثلة؟
بالتأكيد، لا. فلا وضع مستشفياتنا ولا نسبة التلقيح عندنا يمكن أن تقارنا بمثيلتيهما في بريطانيا (النظام الصحي البريطاني هو من أكثر الأنظمة الصحية تطوراً، ونسبة التلقيح لديهم من الأعلى عالمياً). هذا عدا عن ضعف، إن لم يكن انعدام القدرة عند المواطن اللبناني على شراء الدواء في ظل الأزمة الراهنة. نحن في بلد منهوب، لا نكاد نستطيع أن نواجه موجة الوباء الجديدة مع كل الإجراءات، فكيف من دونها! انتشار متحور أقل عدائية والإقبال على التطعيم قد يعبّدان الطريق أمام فرج قريب، لكن استعجاله يمكن أن يكون مدمراً.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية، منسّق برنامج الماستر في علم المناعة