منذ بداية انتشار وباء كورونا بشكلٍ كبير مع مطلع عام 2020، اشتعلت النقاشات والمناظرات، العلميّة وغير العلميّة منها، حول مصدر هذا الفيروس الغريب الذي شلّ العالم. وكما هرع البعض إلى رسم وتبنّي نظريّات المؤامرة، نفى كثيرون، وخصوصًا في الوسط العلميّ، احتمال أن يكون الفيروس نتيجةً للتلاعب المخبري، معتبرين أنه نتيجة طبيعيّة لعلاقة الإنسان بالطبيعة، وتعدّيه الدائم عليها.
واعتُبر هذا التفسير لمصدر الفيروس التفسير «العلمي المنطقي الوحيد»، واعتُبرت أيّة فرضيّة بديلة لنشأة الفيروس جزءًا من التفكير المؤامراتيّ، أو حتّى عنصريّةً ضدّ الصينيّين.
كانت هذه السرديّة هي السائدة إلى درجة أنّ «فيسبوك» اتّخذ قرارًا في شباط الماضي بحجب أي محتوى يدّعي أنّ فيروس كورونا يمكن أن يكون من صنع البشر في المختبرات، ولو بشكلٍ جزئيّ، بهدف تفادي تضليل الرأي العام.

لكنّ فرضيّة «التسرّب المخبري» لفيروس كورونا عادت في الفترة الأخيرة إلى الضوء، عبر الإعلام والصحافة ومنصّات البودكاست التي صارت تتداول هذه الفرضيّة بشكلٍ واسع. حتّى إنّ شركة «فيسبوك» في أيّار الماضي أبطلت قرارها السابق بحجب المحتوى الذي يدّعي بالنشأة المخبريّة للفيروس، معتبرةً هذا التغيير انعكاسًا للتغيّر العام في الانطباع حول هذه الفرضيّة.

ولم يقتصر تداول هذه الفرضيّة على الإعلام فحسب، فقد لاقت تجاوبًا حتى من قبل بعض الباحثين العلميّين، الذين طالبوا بتحقيق أعمق لدراسة مصدر هذا الفيروس، عبر رسالة وجّهها فريق من 18 باحثًا وباحثة ونُشرت في مجلّة science العلميّة في أيّار الماضي تحت عنوان "حقّقوا في أصل كوفيد-19" (Investigate the Origins of COVID-19). لم يتبنّ أيٌّ من هؤلاء الباحثين فرضيّة أن يكون الفيروس وليد عملٍ مخبريّ بالضرورة، إلّا أنّهم أكّدوا أنّ الفرضيّة لا تزال مُحتملة، وأنّ جهودًا أكبر يجب أن تُبذل في سبيل الوصول إلى المصدر الحقيقيّ لهذا الفيروس.

وقد كلّفت إدارة بايدن في أيّار الماضي فريقًا من أجهزة الاستخبارات بالتحقيق في نشأة الفيروس والعودة بتقرير خلال 90 يومًا، بالرغم من أنّ تحقيق منظّمة الصحّة العالميّة في أواخر العام الماضي خلُص إلى استنتاج أنّ من المرجّح أن تكون نشأة الفيروس طبيعيّة عبر انتقاله من الحيوان (تحديدًا الخفاش) إلى الإنسان.
فما الذي أعاد هذه الفرضيّة إلى ساحات النقاش الجدّي؟ وهل من صحّة لحُجَجِها؟

ما هي فرضيّة التسرّب المخبري؟
فرضيّة التسرّب المخبري تعني ببساطة أنّ فيروس كورونا المُستجدّ المسؤول عن وباء كورونا، قد تسرّب عن طريق الخطأ من مختبر علميّ كان يدرس ويُطوّر هذا الفيروس لدواعٍ بحثيّة. وتحديدًا، يتمّ الحديث عن تورّط معهد ووهان لعلم الفيروساتThe Wuhan Institute of Virology، وهو معهد يقع في مدينة ووهان نفسها التي بدأ فيها وباء كورونا في أواخر عام 2019.

ما الحجج التي تدعم الفرضيّة؟
يمكن تقسيم الحجج التي تدعم فرضيّة التسرّب المخبري للفيروس إلى نوعين: الحجج المتعلّقة بخصائص الفيروس نفسه، كالتركيبة الجينيّة أو خصائص العدوى، والحجج المتعلّقة بالظروف المُحيطة بنشأة الفيروس وانتشاره.

الخصائص المتعلّقة بالفيروس:
الجينوم هو التسلسل الجيني للفيروس، وهو خاص بكلّ فيروس، ويحمل المعلومات الخاصّة به. عند دراسة الفيروسات التي انتقلت من الحيوان إلى الإنسان، إحدى أهمّ المراحل البحثيّة هي عزل الفيروس الأساسي من الحيوان (أي مصدره قبل انتقاله إلى البشر). فيما يخصّ فيروس كورونا، فإنّ أقرب جينوم لجينوم فيروس كورونا SARS-CoV-2 هو جينوم فيروس RATGI3 الموجود في خفاش الحُذوة (horseshoe bats)، إلّا أنّ هذا التشابه هو بنسبة ٩٦٪؜ فقط، ما يعني أنّ هنالك فيروس آخر أقرب إلى جينوم فيروس كورونا لا يزال مجهول المصدر حتّى الآن.

ويرى بعض الذين يروّجون لفرضيّة التسرّب المخبري للفيروس أنّه من المُريب وبعد مرور أكثر من عامٍ ونصف عام على بداية الوباء، لم يتمكّن أحد حتّى الآن من إيجاد هذا الفيروس نفسه أو بشكل شبه مُطابق في أيٍّ من الحيوانات، ما يجعل مصدره غير مؤكّدٍ حتى الآن.

لكن، في المقلب الآخر، لفت كُلٌّ من المُحرّرين العلميّين في مجلّة nature العلميّة، آيمي ماكسمين وسميتري مالاباتي، في مقالة نُشرت لهما في المجلّة في حزيران الماضي، إلى أنّ هذا التأخّر ليس مُريبًا بالضّرورة. فعلى سبيل المثال، استغرق إيجاد مصدر فيروس السارس SARS حوالى 14 عامًا، بينما لا يزال مصدر فيروس إيبولا مجهولًا حتى الآن.

من ناحية أُخرى، هُناك من يرى أنّ سرعة انتشار الفيروس، وخصوصًا في الأماكن المُغلقة، تجعل فرضيّة صناعته مخبريًّا أكثر واقعيّة. لكنّ الفيروس هذا ليس فريدًا من نوعه في ما يخصّ سرعة انتشاره، بل إنّ هنالك فيروسات تنتشر بسرعة أكبر كفيروس داء الحصبة (measles) والذي لديه سرعة انتشار تعدّ من الأعلى في العالم. بالإضافة إلى أنّ فيروس كورونا لديه القدرة على التطوّر ليصبح أكثر قدرة وسرعة في الانتشار، كمُتحوّر دلتا الحديث الذي يُعتبر أسرع انتشارًا من سائر السلالات السابقة.

الظروف المُحيطة بنشأة الفيروس وانتشاره:
من أبرز الحجج التي يستخدمها المروّجون لفرضيّة التسرّب المخبري للفيروس هي تلك المرتبطة بظروف نشأة وانتشار الفيروس، لا بالفيروس نفسه. أهمّ ما يُقال ويُكتب هو أنّ وجود أحد أهمّ مختبرات العلوم الفيروسيّة (معهد ووهان لعلم الفيروسات)، في المدينة نفسها التي بدأ فيها هذا الفيروس، وتخصّص هذا المعهد بدراسة الفيروسات التاجيّة (أي فيروسات عائلة كورونا) يجعل احتمال أن يكون الفيروس قد تسرّب عن طريق الخطأ من هذا المختبر احتمالًا عاليًا.

بالرغم من أنّ هذا السيناريو مُحتمل، إلّا أنّ ماكسمين ومالاباتي شدّدا على نقطة أساسيّة في ما يخصّ هذا النوع من المختبرات؛ عادةً تختصّ المختبرات من هذا النوع بدراسة الفيروسات المنتشرة في المنطقة نفسها، أي أنّ دراسة معهد ووهان لفيروسات عائلة كورونا على وجه الخصوص ليست بالأمر الغريب، بل هو متوقّع؛ لأنّ هذه الفيروسات هي نفسها الأكثر انتشارًا في هذه المنطقة والتي نفسها قد تُنتج بعض الأوبئة بين الحين والآخر. يقول عالم الفيروسات فينسنت مانستر، والذي يعمل في مختبرات روكي ماونتن (Rocky Mountain Laboratories)، إنّه في 90% من حالات تفشّي الفيروسات في مناطق معيّنة، ستجد مختبرًا ما في المنطقة يدرس هذه العائلة من الفيروسات. هذا لا يعني أنّ المختبرات هذه مسؤولة عن هذا التفشّي، بل هي تدرس هذه الفيروسات لأنّها الأكثر انتشارًا في هذه المناطق بالتحديد.

ما الذي أعاد الفرضيّة إلى الضوء؟
أحد أهمّ أسباب عودة الفرضيّة إلى الضوء وتبنّي كُثر لها في الفترة الأخيرة، هو تقرير نُشر في شهر أيّار الماضي في «وول ستريت جورنال» حول إصابة ثلاثة علماء من معهد ووهان للعلوم الفيروسيّة بعوارض في الجهاز التنفّسي وخضوعهم للاستشفاء في تشرين الثاني عام 2019، قبل الإعلان عن أوّل إصابة بالكوفيد-19 بأسابيع.

أثار هذا التقرير جدلًا حتى في الأوساط التي تبنّت سابقًا تفسير النشأة الطبيعيّة للفيروس، في الوقت الذي اعتبرت الصين التقرير جزءًا من البروباغندا الأميركيّة التي تريد أن تجيّش الرأي العام ضدّ الصين لتحميلها مسؤوليّة الوباء، نافيةً أي إصابات بين العاملين في المعهد قبل بدء الوباء.

ويعتبر ويليام شافنر، رئيس قسم الأمراض الجرثوميّة في مستشفى فاندربلت الجامعي، هذا التقرير السبب الرئيسي في تحوّل فرضيّة التسرّب المخبري من "نظريّة مؤامرة" إلى تفسير محتمل لنشأة الوباء. وبالرغم من أنّه لا يزال يُرجِّح احتمال النشأة الطبيعيّة للفيروس، إلّا أنّه يعتبر أيضًا أنّ التحقيق في مصدر الفيروس ضروريّ من أجل الشفافيّة العلميّة، وخصوصًا مع تبنّي أوسع لفرضيّة التسرّب المخبري في الوسط الطبّي والعلمي.

بالرغم من غياب الأدلّة المباشرة حتّى الآن التي تدعم فرضيّة التسرّب المخبري، إلّا أنّ الفرضيّة لا تزال مُحتملة. كما لا تزال فرضيّة انتقال الفيروس بشكل طبيعي من الحيوان إلى الإنسان غير مؤكّدة، رغم تبنّي جزء كبير من العلماء لها. يبقى الأمر قيد التحقيق الذي يُفترض أن يكون علميًّا مُجرّدًا من الأجندات، وتبعات نتائج تحقيق من هذا النوع ستختلف كثيرًا بحسب الفرضيّة التي ستتأكّد مع الوقت.

المصادر:
Bloom, Jesse D., et al. “Investigate the Origins of COVID-19.” Science, American Association for the Advancement of Science, 14 May 2021, science.sciencemag.org/content/372/6543/694.1.
Gordon, Michael R., et al. “WSJ News Exclusive | Intelligence on Sick Staff at Wuhan Lab Fuels Debate on Covid-19 Origin.” The Wall Street Journal, Dow Jones & Company, 23 May 2021, www.wsj.com/articles/intelligence-on-sick-staff-at-wuhan-lab-fuels-debate-on-covid-19-origin-11621796228.
Maxmen, Amy, and Smriti Mallapaty. “The COVID Lab-Leak Hypothesis: What Scientists Do and Don't Know.” Nature News, Nature Publishing Group, 8 June 2021, www.nature.com/articles/d41586-021-01529-3.
deutschewelleenglish. “What's behind the Resurgence of the Wuhan Lab Theory? | DW News.” 27 May 2021