من اللحوم المعلّبة إلى المشروبات الغازية، أتاحت لنا عمليات التصنيع الغذائي حفظ الطعام وإكسابه قواماً، وابتكار منتجات غذائية جديدة. فكيف أصبحت الأطعمة المصنّعة مرادفاً لما هو غير صحّي؟
اعتبر تقرير نشرته «بي بي سي فيوتشر»، تحدّث بإسهاب عن تاريخ الغذاء والأغذية المصنّعة، أن البشر شرعوا في معالجة الأطعمة منذ اللحظة التي قرّر فيها إنسان مبتكر أن يطهو اللحم على النار، قبل 400 ألف عام على الأقل، مروراً باكتشاف الزراعة قبل نحو 10 أو 15 ألف عام.

استخدم أجدادنا عملية التخمير (للخمور ومنتجات الألبان)، والطحن والخَبز (للخُبز والمعجنات)، واكتشفوا طرقاً لحفظ اللحم، إما بالتمليح أو بغمرها في محلول الملح. ساعدت عمليات معالجة الأغذية قديماً البشر في الحصول على طعام مفيد وشهيّ.

وأدّت معالجة الأطعمة دوراً كبيراً في تمدّد الحضارة الإنسانية. فكيف أصبحت الأطعمة المصنّعة مرادفاً للأنظمة الغذائية التي تحتوي على نسبة كبيرة من الدهون والسكريات والأملاح؟ وهل يوجد تشابه بين الأطعمة المصنّعة التي نأكلها اليوم وبين نظيرتها الأصلية؟

استخدم البشر قديماً هذه الطرق البدائية لمعالجة الأطعمة، لتحقيق أغراض معينة، فالطهو مثلاً يليّن الأطعمة ويكسبها مذاقاً مميزاً، ويسهّل مضغ الخُضر الجذرية والبقوليات، ويساعد الجسم على امتصاص المواد الغذائية. كما يساعد التخمير والطحن والخبز، الجسم على هضم بعض الأطعمة والاستفادة من عناصرها الغذائية.

وقد يصعّب على أجسامنا امتصاص أي مغذيات من حبوب القمح، لكن إذا قمنا بتخميرها أو طحنها لتحويلها إلى دقيق، سنحصل على وجبة غنية بالسعرات الحرارية. وتساعد عمليات مثل التمليح أو البسترة، في حفظ الطعام لفترة أطول والحفاظ على سلامته. وكل هذه العمليات ساعدت البشر على التنقل لمسافات طويلة والبقاء على قيد الحياة في الشتاء القارس، أو في مواسم المجاعات القاسية.

ولا تزال هذه العمليات تُستخدم حتى اليوم، للحفاظ على سلامة الأغذية وحفظها لوقت أطول، وهذا يسهم في الحد من الهدر الغذائي. لكنّ بعض الأطعمة المصنّعة تضرّ بصحتنا، فمتى أصبحت كذلك؟

ربما اشتهر «إيرل أوف ساندوتش الرابع»، بالشطائر المكوّنة من شريحتَي خبز وبينهما حشو، حتى سميت ساندوتش على اسمه. لكن يُنسب إليه أيضاً الفضل في ابتكار المشروبات الخفيفة، التي نتناولها جميعاً مع وجبة الغداء.

فقد ظهرت المشروبات الغازية في بريطانيا منذ 250 عاماً، وكان «إيرل أوف ساندوتش» حينها يحمل لقب رئيس أركان القوات البحرية الملكية البريطانية.

وكانت الرحلات البحرية في القرن الثامن عشر بطيئة، ويواجه فيها البحارة تحديات بالغة. فقد تظل السفينة بعيدة عن اليابسة وإمدادات الطعام والشراب لشهور، ويعتمد أفراد طاقم السفينة على المؤونة التي تكفيهم طوال الرحلة. فكانوا يخزّنون الماء لأسابيع أو لشهور، وقد يفسد أو يتغير طعمه ورائحته، (ولم تكن تقنية تحلية مياه البحر واسعة الانتشار في القرن الثامن عشر)، ولهذا لم يكن من المستغرب أن يفضّل البحارة مشروب الروم المُسكّر على الماء.

وبحث ساندوتش عن طرق لمعالجة الماء العذب الآسن، ليصبح مستساغ الطعم، ولهذا استعان بالعالم الكيميائي جوزيف بريستلي. وكانت المياه الفوّارة المستخرجة من الينابيع الطبيعية تُستهلك آنذاك لفوائدها الصحية.

ووصف بريستلي في كتيّب، عام 1772، طريقة لإنتاج وعاء من «الماء المشبّع بالهواء الثابت (ثاني أوكسيد الكربون)»، في 15 دقيقة فقط. وكان يعتقد أن المياه الغازية (التي كان يُطلق عليها الماء المعالج)، تقي من «الإسقربوط».

وقد كان مخطئاً. لكنه اكتشف شيئاً آخر مفيداً، إذ لاحظ أن المياه الغازية حمضية بنسبة طفيفة، بمعنى أنها مضادة للميكروبات إلى حد ما، ومن ثم تحتفظ بطعمها ورائحتها لفترة أطول مقارنة بالمياه الراكدة. ويقول مهندس الكيمياء الحيوية في كلية لندن الجامعية، مايكل سولو: «البكتيريا تنفر من حمض الكربونيك».

وكُللت جهود بريستلي بالنجاح، وحقّق الماء المعالج انتشاراً واسعاً، وأدى إلى ظهور المياه الغازية المخلوطة بمادة الكينين المستخلصة من لحاء شجرة سينشونا (الكينا)، لخواصّها المضادة للملاريا. ولقي هذا المشروب رواجاً كبيراً في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، لفوائده العلاجية، رغم أن خواص لحاء السينشونا المضادة للملاريا عرفتها القبائل الأصلية في أميركا الجنوبية قبل قرون.

لكن شتان ما بين المشروبات الغازية المنتشرة الآن، وبين أصولها المفيدة للصحة. يقول سولو، إن المشروبات الغازية الحديثة الغنية بالسكريات تحظى بسمعة سيئة. وبالمثل، فإن حبوب الإفطار الآن تختلف تمام الاختلاف عن الحبوب التي كان يطحنها أجدادنا، وقد تغيرت أيضاً الشوكولاتة الحديثة واللحوم ومنتجات الألبان وحتى البوظة، عما كانت عليه قديماً، إلى درجة أن أجدادنا قد يعجزون عن التعرّف إليها. فكيف وصلت الأطعمة المصنّعة إلى هذه الحال؟

وقد أفضى البحث عن مستخلصات طبيعية، لإضافتها إلى المشروبات الفوارة، بغية تحقيق فوائد صحية إضافية في القرن التاسع عشر، إلى إنتاج مياه معالجة بالأعشاب والحبوب المستوردة وغير المألوفة. إذ شرعت شركات عديدة في إنتاج مشروبات «الكولا» المنبّهة والغنية بالكافيين، التي تحتوي على مستخلصات من جوز الكولا.

وظهر مشروب «بيبسي كولا» في التسعينيات من القرن التاسع عشر، وكان يسمّى «برادز درينك»، وكان في البداية مشروباً يساعد على الهضم، ولهذا استمد اسمه من البيبسين، أحد الإنزيمات الهاضمة، أو «ديسبيبسيا»، الاسم العلمي لعسر الهضم، ولم تكن الوصفة تتضمن جوز الكولا أو البيبسين.

وكان مشروب «كوكا كولا»، المنكّه بطعم جوز الكولا وأوراق الكوكا، يوصف في الحملات التسويقية بأنه «المشروب المنعش المثالي للدماغ» في أواخر القرن التاسع عشر، نظراً إلى خواص الكافيين وأوراق الكوكا المنبهة. وقد ظلّ أفراد القبائل الأصلية في أميركا الجنوبية لقرون، يمضغون أوراق الكوكا النيئة أو ينقعونها في الماء المغلي، لإطلاق العوامل ذات التأثير النفسي. وذكرت شركة «كوكا كولا»، أن المشروب لم يحتو قط على كوكايين، الذي قد يستخلص من أوراق الكوكا.

واستجابة لزيادة الطلب على المنتجات ذات نفس المذاق والرائحة واللون، عدل مصنّعو الأطعمة منتجاتهم لتناسب ذائقة الزبائن. ومن ثم أنتجت شركة هاينز صلصة «الكاتشب».

وبفضل التطورات في الكيمياء، أصبح من الممكن محاكاة مذاق أحد المنتجات وقوامه، باستخدام أحد المستخلصات بدلاً من المكوّن الطبيعي، وقد تسهم هذه التطورات في خفض أسعار الغذاء.

ويقول اختصاصي علم الوبائيات الغذائية في جامعة ساو باولو بالبرازيل، فيرناندو روبر: «المشكلة أن هذا أدى إلى ظهور نوع جديد من تصنيع الأطعمة، على مدى السنوات الخمسين الماضية، (في إشارة إلى الأطعمة الفائقة التصنيع)، باستخدام مواد لا تتوافر في مطابخنا، وتحتوي هذه الأطعمة عادة على القليل من المكوّنات الغذائية الطبيعية».

وتقول اختصاصية التغذية في جامعة ديكين في أستراليا، بريسيلا ماكادو: «تضيف المصانع إلى هذه الأطعمة، ما نطلق عليه إضافات تجميلية، مثل الملوّنات ومكسبات الطعم ومكثفات القوام والمستحلبات والجيلاتين، لتحسين الخواص الحسّية للأطعمة، وإضافة مواد ليس لها طعم لو تذوّقتها بمفردها. وهذه المواد لا تضيف أي قيمة غذائية للأطعمة. ولهذا فإن الأطعمة عندما تخضع لعمليات التصنيع والمعالجة، تصبح خالية من مضادات الأكسدة، والكيماويات النباتية التي نجدها عادة في الأطعمة الطبيعية غير المصنّعة».

لكن حتى لو أُعيدت إلى هذه الأطعمة المصنعة، المغذيات التي فقدتها بسبب علميات التصنيع، كما هو الحال في الحبوب المعزّزة بالحديد أو الألياف، لن تكون صحية كما يظن الكثيرون. وذلك لأن العناصر الغذائية التي يمتصّها الجسم من الأغذية الطبيعية الكاملة، أكثر من تلك التي يمتصها من الأغذية المصنّعة المعززة بالمعادن والفيتامينات.

ولو نظرت إلى قائمة مكونات مشروب «الكوكا كولا»، لن تجد سوى عبارة «نكهات طبيعية»، لكن الشركة لم تفصح عن أسماء مكونات المشروب. وظل مشروب «كوكا كولا» يحتوي على مستخلصات من أوراق الكوكا حتى عام 1988 على الأقل، وإن كانت الشركة أزالت منها الكوكايين قبل سنوات طويلة. وقد لاقى هذا المشروب رواجاً بسبب مذاق الكوكا، لا بسبب تأثيره المنشط والمنبّه.

وكشأن المشروبات الغازية، نشأت الشوكولاتة في أميركا الوسطى قديماً، حيث كانت حبوب الكاكاو تُنقع في الماء المغلي للحصول على مشروب ساخن مرّ المذاق. واكتشف علماء الآثار بتحليل طبقات بقايا الأطعمة والمشروبات على أواني شعب المايا من عام 250 ميلادياً، أنهم كانوا يطحنون حبوب الكاكاو، لتصبح في صورة لب ثمرة دهني، وليس مسحوقاً جافاً، كما هو الحال اليوم، بحيث تطفو الزيوت على السطح وتستقر الحبيبات في قاع الإناء. وتشير الأعمال الفنية لشعب المايا، إلى أنهم كانوا يحتسون الشوكولاتة الساخنة في الطقوس والمراسم.

ثم شرع شعب «الآزتيك» في شرب الشوكولاتة باردة، وأضافوا إليها التوابل. وابتُكرت لاحقاً طرق تحميص حبوب الكاكاو وطحنها للحصول على مسحوق الكاكاو، لتسهيل تخزينه ونقله. وبتجفيف مسحوق الكاكاو، أصبحت الشوكولاتة سلعة تجارية تُشحن عبر البحار.

وأخذ علماء الكيمياء يجرون تجارب على تركيبات جديدة للشوكولاتة، لتلبية الطلب المتزايد على الحلويات. ولم يحاول أحد إنتاج الشوكولاتة الجامدة بخلط مسحوق الكاكاو والسكر وزبدة الكاكاو، سوى في الأربعينيات من القرن التاسع عشر.

واليوم، تُسهم السكريات المضافة إلى الأطعمة، في مفاقمة الكثير من المشاكل الصحية التي يربطها الناس بالأطعمة المصنّعة. لكن السكر ظل لسنوات طويلة من سلع الرفاهية، فلماذا يضاف الآن السكر المكرّر بكميات كبيرة إلى الأطعمة المصنّعة، ولماذا لا نستخدم في المقابل السكر الطبيعي مثل الفركتوز؟

ويقول روبر: «السكريات الناتجة عن عمليات التخليق الكيميائي، مثل شراب الذرة العالي الفركتوز والسكر المحوّل، كلها عناصر قليلة التكلفة تضاف بكثرة إلى الأطعمة فائقة التصنيع. وتضيف مصانع الأغذية السكريات بكميات كبيرة لإكساب الأطعمة التي فقدت نكهتها الأصلية بسبب علميات التصنيع، نكهات مميزة وإخفاء أي نكهة كريهة في المنتج النهائي. ولا تضاف هذه السكريات للتحلية فحسب، بل تمنح الأطعمة قواماً وشكلاً ولوناً، وتعمل أيضاً كمواد حافظة».

ويقول سولو، إن الشركات تضيف كميات كبيرة من السكر إلى الحلويات المصنّعة، للحصول على نفس حلاوة الفاكهة التي تحتوي على سكّر طبيعي.

وقد كان الحد من السكريات والدهون والملح، هو الموضوع الرئيسي للعديد من حملات الصحة العامة، لكن روبر يقول إن إزالة هذه العناصر من الأطعمة ليست سهلة، لأنها تؤدي أحياناً وظائف كيميائية. فالمستحلبات تضاف إلى الأطعمة المنخفضة الدهون على سبيل المثال، لإكسابها مذاق الدهون، الذي يُعدّ المذاق السادس. وقد تصبح عمليات تصنيع الأطعمة مستقبلاً أكثر انتشاراً، للحفاظ على شكل الأطعمة وسلامتها لفترة طويلة، إذا أردنا الاستغناء عن الدهون أو السكريات أو الأملاح.

وترى نائبة مدير معهد الأغذية والصحة، التابع لكليّة دبلن الجامعية في أيرلندا، أيلين غيبني، أن عمليات تصنيع الأطعمة ستكتسب أهمية كبيرة، مع زيادة الطلب على الأطعمة النباتية. وتقول: «الأنظمة الغذائية النباتية ستؤدي إلى زيادة عمليات تصنيع الأغذية. فاستخلاص العناصر الغذائية من النباتات ستتطلب تعريض الأطعمة لعمليات تصنيع متعددة، للحصول على منتجات نباتية لها نفس مذاق ورائحة وقوام المنتجات الحيوانية». لكن هل هذا يعني أننا نحاول الحد من استخدام نوع من الأغذية لأسباب أخلاقية، لنستعيض عنه بأغذية تخضع لعمليات تصنيع إضافية؟

وتقول غيبني: «أعتقد أنه لن يكون هناك مفرّ من عمليات تصنيع الأغذية في المستقبل».



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا