منذ بدء الوباء، طغت أساليب الوقاية من تعقيم الأيدي والأسطح والتباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات على جميع جوانب حياتنا. وقد استغرق الباحثون كثيراً من الوقت حتى يؤكدوا أنّ احتمال انتقال «كورونا» عبر الأسطح ضئيل جداً. إذ أعلن، أخيراً، المركز الأميركي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، في دراسة نشرها في أوائل نيسان، أنّ إصابة واحدة من بين 10 آلاف تحصل عبر اللمس. ولفت بالتالي إلى أنّ أكثر سبل الوقاية ضمانة وفعالية في الوقت الحالي هي ارتداء الأقنعة والتباعد الجسدي والتهوية، لا التعقيم المستمر للأسطح والأيدي.
بالرغم من ذلك، وجدت الدراسات واستطلاعات الرأي أنّ أغلب الناس والمؤسسات ينوون استئناف تعقيم أجسادهم وأماكنهم حتى بعد «انتهاء» الوباء. في هذا الإطار، أوضحت دراسة أجرتها شركة الأبحاث البريطانية «مينتل» أنّ 26 في المئة فقط من مستهلكي أدوات التنظيف، في السوق الأميركي، سيتخلون عن أساليب التعقيم وعاداتهم الشرائية لها التي رافقتهم خلال فترة «كورونا». ولدى إجراء هذه الشركة لمسحٍ حول العادات الصحية «الشخصية» للمستهلكين، أكد عدد منهم أنهم سيستمرون بتعقيم أيديهم بالوتيرة ذاتها.

وفي دراسة أجرتها جامعة «نانيانغ للتكنولوجيا» في سنغافورة، أكّد ثلثا الخاضعين لها أنهم سيستمرون باستخدام معقم الأيدي، فيما قال أكثر من 60 في المئة منهم أنهم سيتابعون حضور المؤتمرات في العمل أو الدراسة «افتراضياً» بعد الوباء، ليبدو أنّ عادات النظافة واستهلاك مواد التنظيف والتباعد الاجتماعي هي من إحدى الجوانب الحياتية الجديدة التي سيترك عليها «كورونا» انطباعاً دائماً، حتى بعد احتوائه.

غير أنّ الخبراء بدأو يحذّرون من أنّ استمرار هكذا عادات سيولّد مخاطر صحية كبيرة على المدى الطويل، ويطالبون، حالياً، باستدراك هذه المشكلة قبل أن يقع الناس في أزمة مع «ميكروباتهم الجيدة». وبالنسبة إلى هؤلاء، فإن مصير هذه الميكروبات، ومعها صحة أجسادنا، مرتبط بمدى قدرة المجتمع على العودة إلى نمط الحياة الذي كان يعرّضنا للبكتيريا، لا سيما أنّ حالة العزلة والتباعد هذه قد تستمرّ لأكثر من سنة قادمة.

«كورونا» أرحم من خسارة الميكروبات الجيدة؟!

في خلال السنوات الماضية، تمّ تسليط المزيد من الاهتمام على الـ«ميكروبيوم (Microbiome)، وهو مجموع الميكروبات الجيدة التي «تتعايش» مع الانسان أو أي من الأحياء الأخرى، وتعيش على سطح جسمها وفي داخل أمعائها بشكل خاص. كما أعطي اهتمام لعلاقة هذه الميكروبات بكثرة الأمراض التي تصيبنا، من السكري إلى التوحّد والقلق المفرط والسمنة وباستجابة المرضى لبعض العقاقير والعلاجات.

وفي خضمّ حربنا مع وباء «كورونا»، تتركّز مخاوف الخبراء، حالياً، على مصير التريليونات من هذه البكتيريا التي تعيش على وداخل أجسادنا. ويعتقدون أنّ ممارسات النظافة الصحية المفرطة، وأبرزها:
- الاستخدام الخاطئ للمضادات الحيوية التي يستهلكها عدد كبير من مرضى «كورونا».
-الحفاظ على المسافات بين الناس.
-التعقيم المستمر للأسطح والأيدي.
وغيرها من الإجراءات قد تضعف هذه «الجماعات» من البكتيريا، ممّا سيعزز احتمال إصابتنا بالأمراض وسيعرّض نظامنا المناعي للخطر. وبالتالي، يناقش الخبراء أن الأمر يفوق إيجابياته حتى.

في هذا السياق، يقول الأستاذ في قسم علم الأحياء المجهرية وعلم المناعة في جامعة «كولومبيا البريطانية»، الدكتور بريت فينلاي، لصحيفة «نيويورك تايمز»، إنّ واحداً فقط من بين أكثر من 10 أمراض قاتلة في الولايات المتحدة، وهو الإنفلونزا، يتمّ التقاطه بـ«العدوى»، بينما باقي هذه الأمراض، كأمراض القلب والسرطان والأمراض العقلية والسكري، فمرتبطة بخلل في «الميكروبيوم»، أو نقص ما فيها. كذلك، يرى فينلاي، أنه بالرغم من عجزنا عن التحكم بجيناتنا، فنحن نمتلك قدرة التحكم بميكروباتنا الجيّدة، ومعاملتها كـ«صديقة لنا»، لتجنب المخاطر الصحية.

ويدفع هذا بأستاذ الدراسات البيئية وعلم الأحياء في جامعة «أوريغون» إلى التخوّف من أنّ الناس، بعد احتواء الوباء، سيكونون «قلقين من التعرّض للميكروبات، ولن يتفاعلوا بالتالي مع الآخرين ومع ما حولهم»، لافتاً إلى أنّ بدء العودة سيشكل صدمة لدى الجميع.

أنقذوا ميكروباتكم!

يرى الخبراء أنّ مهمة إقناع الناس، الذين لا يزالون بمعظمهم «مرتعبين» من الوباء، بتعريض أنفسهم لمزيد من البكتيريا هي شبه مستحيلة حالياً. وفي ما يسعى بعض الخبراء إلى نشر التوعية بهذا الشأن، هم يرجحون أنّ صحة ميكروباتنا ترتبط بشكل جزئي بمدى استعداد الأشخاص الذين تلقوا اللقاح إلى خلع أقنعتهم حين يتواجدن معاً، والتفاعل مع بعضهم البعض كما في السابق.

بهذا الشأن، ترجّح عالمة الأنثروبولوجيا الطبية في معهد «باستور» غير الربحي في باريس، تمارا جايلز-فيرنيك، لصحيفة «نيويورك تايمز»، أنّ «الكثير من الممارسات التي يقوم بها الناس عندما يكونون سوياً، والتي لا نفكر فيها كثيراً، كالمصافحة والتقبيل والعناق، يمكن أن تلعب دوراً في تبادل الميكروبات».

وتضيف للصحيفة، أنه «في حين تبقى النسبة الأكبر من السكان غير ملقحة حتى الآن، وبالتالي معرضة للخطر، يجب عليهم الاستمرار بالتزام معايير التباعد الجسدي وارتداء الأقنعة»، مؤكدةً من ناحية أخرى أنّ «محاولة تعقيم جميع الأشياء من حولنا وخلق بيئة اصطناعية خالية من الجراثيم غير ضرورية أبداً». وتتابع: «في حال تلقيت اللقاح، وكان الشخص الذي أمامك قد تلقى اللقاح أيضاً، لا مانع من أن تقتربا، من بعضكما البعض، وتتعانقا».