في آذار من العام الماضي، وقبيل إعلان منظّمة الصّحّة العالميّة أنّ وباء فيروس كورونا المستجدّ أصبح يُصنّف كجائحة، تصدّر هاشتاغ #Boomerremover قائمة الهاشتاغات على موقع تويتر في عدّة دول منها الولايات المتّحدة الأميركيّة. الهاشتاغ استُعمل كتوصيف لفيروس كورونا بأنّه «مُزيلُ كبار السّنّ»، نظراً لأنّ الفئة الأكثر عُرضةً لمخاطر هذا الوباء هي فئة كبار السّنّ.لاقى هذا الهاشتاغ تفاعلاً واسعاً، إذ استُخدم أكثر من 65 ألف مرّة في الأيّام الأولى، وبحسب دراسة أُجريت في جامعة «سونورا»، فإنّ أغلب التّغريدات تحت هذا الهاشتاغ كانت تتضمّن محتوىً عنصريّاً ضدّ كبار السّنّ، سواء كان ذلك لناحية تعديل التّوازن الدّيمغرافي لصالح الشّباب، أو لتأثير هذا الوباء على نتائج الانتخابات المقبلة حيث يخفّ عدد النّاخبين المسنّين فتميل الكفّة نحو الخيارات «التّقدّميّة» في مواجهة «الرّجعيّة».
لا شكّ أنّ هذا الهاشتاغ يعتبر متطرّفاً في تمييزه ضدّ كبار السّنّ، وقد أثار سخط واستهجان كثيرين من الأوساط الأكاديميّة والنّاشطين في مجال الشّيخوخة. لكنّ المثير للاهتمام فعلاً هو أن يكون المناخ الإعلاميّ والسّياسي، في التّعامل مع وباء كورونا، قد اتّسم بالعنصريّة والتّمييز ضدّ كبار السّنّ ولو عن حسن نيّة أو بتلقائيّة عفويّة أحياناً. الوباء لم يخلق أو ينتج هذا المناخ، كُلّ ما فعله هو أنّه عزّزه وسلّط الضّوء على ظاهرة تنمو منذ سنوات، ويتسارع نموّها مع تطوّر المجتمعات الحديثة الّتي بدأت بالتّخلّي عن مسنّيها.
بعد دراسته للقبائل والمُجتمعات البدائيّة في «بابوا غينيا الجديدة» على مدى ما يقرب من خمسين عاماً، يتحدّث جارد دياموند، وهو كاتب أميركي وعالم في التّاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا، عن عُنصرين أساسيّين يرسمان نظرتنا لكبار السّنّ. العُنصر الأوّل هو المنفعة الّتي يُقدّمها كبار السّنّ، والتي تعتمد على الدّور المُتوقّع منهم أداؤه، والعنصر الثّاني هو قيم المُجتمع الحاكمة.
كي نكون واقعيّين في الحديث عن دور كبار السّنّ في المجتمعات الحديثة، علينا أن نُقرّ بأنّ الدّور هذا تضاءل في العقود الأخيرة، خصوصاً مع التّطوّر التّقني والعلمي. فبعد أن كان شيوخ القبيلة يشكّلون «مكتبات» مجتمعاتهم والمصادر الوحيدة للمعرفة، أُزيحوا جانباً وأصبحت مصادر المعارف والعلوم في يد كُلٍّ منّا. بل أكثر من ذلك، بسبب تسارع التّطوّر التّكنولوجي، والحاجة المتزايدة لمواكبة هذا التّطوّر، انقلبت الأدوار التّعليميّة بين الأجيال، ممّا ساهم أيضاً في تقلّص هذا الدّور بشكلٍ أكبر.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ عقيدة الهوس بالعمل والإنتاج الّتي تتبنّاها المجتمعات الحديثة والّتي تعتبر أنّ قيمة الإنسان مرتبطة بمقدار مساهمته في الاقتصاد، ساهمت في تفاقم هذا التّمييز ضدّ كبار السّنّ. لذلك، أصبح فقدانهم قيمتهم الإنتاجيّة الاقتصاديّة مع العمر سبباً لفقدانهم جزءاً من قيمتهم الإنسانيّة كأفراد في لاوعي هذه المجتمعات.
العُنصر الثّاني الّذي يؤثّر على نظرة المجتمع إلى كبار السّنّ وتعامله معهم هو المنظومات القيميّة الحاكمة، ونظرة هذه المنظومات إلى مفهوم التّقدّم في السّنّ. بطبيعة الحال، فإنّ هذه النّظرة تختلف بحسب المجتمعات، وتتفاوت المواقف تجاه كبار السّنّ تبعاً لمدى كون المجتمع أكثر فردانيّة (individualistic) أو أكثر جماعيّة (collectivistic). في دراسةٍ ضخمة أجراها فريقٌ من الباحثين على 26 مجتمعاً من ثقافات مختلفة لدراسة مدى تباين مفهوم التّقدّم في السّنّ بين هذه المجتمعات، وجد (لوكنهوف) من جامعة فلوريدا، وفريقه البحثيّ، ارتباطاً بين التّقدّم الاقتصادي وارتفاع مستوى التّعليم من جهة، وبين ازدياد النّظرة السّلبيّة تجاه كبار السّنّ من جهة أُخرى. ما وجده الباحثون أيضاً هو أنّ التّوجّه المتزايد للمُجتمعات نحو القيم التّقدّميّة واللّيبراليّة مرتبطٌ بتفاقم النّظرة السّلبيّة لكبار السّنّ.
ولكن قبل أن نستعجل في استعراض فضيلة مجتمعاتنا أمام المجتمعات «التّقدّميّة» في ما يخصّ تعاملنا مع كبار السّنّ، ينبغي لنا أن نخطو خطوةً للوراء لنلحظ مجموعةً من الأعراض الواضحة الّتي توحي بأنّنا، على الأقلّ، في طريقنا إلى النّتيجة ذاتها.

التّمييز ضدّ كبار السّنّ هو التّمييز أو العنصريّة الوحيدة الّتي لا تعني جماعة منفصلة عنّا


على سبيل المثال، في ما يخصّ الوباء الحالي، تبنّينا، ولو بحدّةٍ أقلّ، نفس الخطاب التّمييزي ضدّ كبار السّنّ. صحيحٌ أنّ سياسيّينا وإعلاميّينا لم يُطالبوا بصراحة «التّضحية بأجدادنا من أجل اقتصاد أبنائنا» كما فعل نائب حاكم ولاية تكساس دان باتريك مثلاً، لكنّنا مثلاً في الأيّام الأولى عندما كُنّا نريد التّخفيف من قلق النّاس وهلعهم من الوباء، كان الخطاب، وغالباً عن حسن نيّة، على نسق: «لا تخافوا، فالوباء يقتل كبار السّنّ فقط». حتّى حين تضافرت جهود الأطبّاء والنّاشطين والإعلاميّين لحثّ النّاس على الالتزام بالإجراءات الوقائيّة وللتّشديد على خطورة الوباء، خصوصاً في الآونة الأخيرة، كان ذلك من خلال استعراض تأثير الوباء على الأصغر سنّاً، وأنّ «الشّباب صاروا يموتون أيضاً». وحتّى إعلاميّاً، وعلى مواقع التّواصل الاجتماعي، محلّيّاً وعالميّاً، وفاة شابٍّ يافع هي قصّةٌ ومأساة، ووفاة مُسنٍّ هي رقمٌ ينضمّ إلى إحصائيّات أُخرى.
في الوقت عينه، كي نكون مُنصفين، فإنّنا بطبيعتنا عادةً ما نحزن أكثر عند وفاة شابٍّ مقارنةً بشخصٍ مُسنّ؛ لأنّ في الأوّل خسارة لعدد أكبر من «السّنوات المُتوقّعة» من الحياة، ممّا يفسّر تفاوت مشاعرنا ومقاربتنا لوفيات هذا الوباء. إلّا أنّ هذا لا يعني أن نتطرّف ونتعامل مع كبار السّنّ كأنّ حياتهم هي على هامش أولويّات هذا المُجتمع، يسهل التّخلّص منها في سبيل عجلةٍ اقتصاديّة نشيطة.
من اللّافت أيضاً أنّ التّمييز ضدّ كبار السّنّ هو التّمييز أو العنصريّة الوحيدة الّتي لا تعني جماعة منفصلة عنّا، بل ضدّ جماعة سننضمّ إليها في المستقبل. مصدر هذا التّمييز، بحسب ما تقول أخصّائيّة الشّيخوخة (gerontologist) ترايسي جندرن من جامعة «فيرجينيا كومنويلث»، هو الخوف. نحن نخاف من التّقدّم في السّنّ؛ لأنّ المجتمع الحديث همّش كبار السّنّ، وصنّفهم كأعباء حتّى بتنا نشعر أنّ ليس هنالك ما نتطلّع إليه في الكبر. لكن في الواقع، هنالك الكثير من أدوار و«منافع» للتّقدّم في العمر، والّتي يصعب ـــ إن لم نقل يستحيل ـــ استبدالها. التّقدّم في السّنّ عادةً ما يمنح نظرة أوسع وأكثر شموليّة للحياة وللعلاقات الإنسانيّة، وبُعد نظرٍ وقدرةً أكبر على التّخطيط والإدارة في مجال الاختصاص، بصرف النّظر عن مدى الإلمام بأحدث التّقنيّات. حتّى أنّ كبار السّنّ عادةً ما يكونون أكثر مرونةً في مواجهة الأزمات، بفضل خبراتهم الحياتيّة الطّويلة، ولعلّ هذا يُضاعف الحاجة إلى نظرتهم للأمور وسط وباءٍ غيّر ملامح هذا العالم.
التّمييز ضدّ كبار السّنّ لم يبدأ مع هذا الوباء، كُلّ ما فعلته هذه الجائحة هو إزالة السّتار عن هذا «الوباء» الآخر الّذي اعتادت مجتمعاتنا التّآلف معه تدريجيّاً لسنواتٍ طويلة ولو بنسب متفاوتة بين المجتمعات والثّقافات المُختلفة. ولعلّ وضوح معالم هذا «الوباء» وسط وباء كورونا يشكّل فرصةً للاستيقاظ وإعادة النّظر، وفرصةً للإجابة عن سؤال نوع المجتمع الّذي نُريد بناءه: هل نريد أن نبني مستقبلاً لجسدٍ يافع نشيط دون ذاكرته؟