إبان الدخول الغربي غير المسبوق إلى الخليج خلال الغزو العراقي للكويت عام 1990، تصاعد الخلاف الديني بشأن جواز الإستعانة بـ»الكفار» على «عدو» من المسلمين.
حمل هذا الخلاف السعودية على استصدار فتوى تبيح الاستعانة بغير المسلم مقابل اعتراض تنظيم «الإخوان المسلمين» وتنظيم «القاعدة» على الخطوة. حتى إن الملك السعودي حينها، فهد بن عبد العزيز، رفض عرضاً من زعيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، بتطوع مقاتلي التنظيم للدفاع عن أراضي المملكة نظير العدول عن فكرة استقدام القوات الأميركية. لم تتأخر فتوى رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبد العزيز بن باز الشهيرة التي اعتبر فيها أن لا حرج في «الاستعانة ببعض الدول الكافرة لنصرة المظلومين من المسلمين ضد الظالم».
ويتحدث الصحافي الأميركي، جيريمي سكاهيل، عن بعض أسرار تلك المرحلة، في كتابه «بلاك ووتر: أخطر منظمة سرّية في العالم»، إذ يقول في مقدمة كتابه إن وزارة الدفاع الأميركية التي كان ديك تشيني على رأسها يومها دفعت إلى جانب قوات البلاد المرسلة للخليج بعشرة مقاولين خاصين لُزَّموا بدورهم مهمات في حرب عاصفة الصحراء.
وانطلاقاً من تجربة «تحرير الكويت» بدأت إدارة بوش الأب عملية تطوير واسعة لشركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة. قاد تشيني مشروع الخصخصة السريعة للبيروقراطية العسكرية وعهد قبيل رحيله بدراسة إلى شركة Brown Root Services (إحدى الشركات الفرعية للشركة الأم هاليبورتون Halliburton) حول كيفية تنفيذ الخطة.
كانت «بلاك ووتر» وليدة أنشطة ديك تشيني في هذا المضمار. أسس الشركة إريك برانس المليونير الراديكالي الذي كانت له اليد الطولى في تمويل حملات بوش الانتخابية ورفد الاستراتيجية اليمينية المتطرفة. واستوحي اسم «بلاك ووتر» من المياه السوداء لمستنقع قاذورات ممتد على مساحة 111 ألف فدان من شرق فرجينيا إلى شمال شرق كارولينا الشمالية وذلك على مقربة من مبنى «جيش المرتزقة» كما باتت تعرف المنظمة.
الامارات المسؤول المباشر عن «بلاك ووتر» ودول الخليج مليئة بشركات أمنية إسرائيلية

وحصلت «بلاك ووتر» على أول عقد لها مع الإدارة الأميركية في شباط من عام 2000، لتكرّ بعده سبحة العقود التي بلغت قيمتها حتى سنة 2010 ما لا يقل عن 500 مليون دولار. ومثل غزو جورج بوش الإبن للعراق الفرصة الذهبية لإريك برانس الذي فاز بحصرية حماية رجالات الاحتلال في بلاد الرافدين وفي مقدمهم بول بريمر. في هذا البلد ذاع صيت «بلاك ووتر» وتلطخت سمعتها بسلسة انتهاكات كان آخرها جريمة ساحة النسور في أيلول 2007. جريمة طالبت الحكومة العراقية على اثرها الشركة بوقف أعمالها فوراً ومغادرة البلاد.

تاريخ سعودي من الارتزاق

في عام 1962 إندلعت حرب اليمن إثر انقلاب المشير عبدالله السلال (ثورة الجمهوريين) على الإمام محمد حميد الدين (آخر حكام المملكة المتوكلية)، وقد أعقب اندلاع الثورة تلك فرار الأخير إلى السعودية مدشناً ثورة مضادة سرعان ما ستحظى بدعم الرياض وعنايتها. دعم لم تتغير أشكاله ما دأبت عليه السعودية طيلة سنين حروبها الممتدة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، هكذا التزم السعوديون استراتيجية القتال بأذرع الارتزاق والمحاربة بأسياف الأجنبي.
يروي بعض المؤرخين لثورة «26 سبتمبر» أن السعودية أنفقت في الأشهر الأولى من الحرب (إبان عهد سعود بن عبد العزيز) 15 مليون دولار على استقدام المرتزقة الأوروبيين والزج بهم في الميدان اليمني بمواجهة الجمهوريين وحلفائهم. ويشير المؤرخون إلى أن مرتزقة من فرنسا وبلجيكا وبريطانيا جيء بهم للاستفادة من خبراتهم التي صقلت في حروب متعددة كروديسيا وشبه الجزيرة المالاوية والهند الصينية والجزائر. تولى هؤلاء المرتزقة (تقدر مصادر مصرية أعدادهم بحوالي 15 ألفاً) مهمات متشعبة تنوعت بين التخطيط والتجهيز وتدريب المقاتلين على استخدام الأسلحة المضادة للدبابات وزرع الألغام.
إسرائيل لم تكن بعيدة بحسب التأريخ المصري للحرب عن لعبة استجلاب المرتزقة إلى اليمن، حيث يورد الكاتب المصري محمد حسنين هيكل في توثيقه للثورة اليمنية أن إسرائيل أقامت اتصالات مع المئات من المرتزقة الأوروبيين، في حين يذكر الكاتب هارت ديفيس في كتابه «الحرب التي لم تكن» (« The War That Never Was «) أن مستشار المرتزقة الأوروبيين نيل بيلي مكلين زار تل أبيب والتقى رئيس الموساد الإسرائيلي عاميت مائير وحصل منه على التزام بتزويد الملكيين والمرتزقة بالأسلحة والذخائر. وتؤكد صحيفة «هآرتس» العبرية نقلاً عن الأرشيف المركزي الإسرائيلي أن إسرائيل سيرت على مدى عامين من حرب اليمن رحلات لدعم المعسكر السعودي في هذا البلد ضمن عملية عرفت باسم Porcupine Operation.
فصل آخر من فصول الاستعانة بالأجنبي شهدته أواخر سبعينيات القرن الماضي، ففي عام 1979 لجأت السلطات السعودية إلى وزارة الدفاع الفرنسية لقمع انتفاضة الحرم المكي التي عجز الحرس الوطني عن محاصرتها وتكبد جراء استعصائها مئات القتلى. وبالفعل، قدم الكابتن بول بريل أحد أبرز ضباط وحدة «مكافحة الإرهاب» الفرنسية إلى الرياض على رأس قوة كان وزير الدفاع الفرنسي إيفون بورجي قد كلفها مساعدة السعودية. وقد نجحت هذه القوة في إخماد انتفاضة جهيمان العتيبي وحسم الموقف على نحو دموي. ولم تحتج الإغاثة الفرنسية، التي حرصت الرياض على سريتها خوفاً من استثارة الجدل حول حرمة دخول غير المسلمين إلى الحرم المكي، إلى فتوى المؤسسة الدينية لتسويغها وشرعنتها.

«الربيع العربي»: أرض خصبة للمرتزقة

آذنت تجربة «بلاك ووتر» في العراق بأفول نجم المنظمة ونهاية عصرها الذهبي. عزز ذلك فشل إريك برانس في إعادة الروح لشركته عن طريق تغيير إسمها إلى «XE» عام 2010، لكن «الربيع العربي» حمل معه بشائر خير لأنشطة الارتزاق، إذ إن الأنظمة المتخوفة من امتداد الأحداث إليها بادرت في استنقاذ مرتزقة «بلاك ووتر» والإفادة منهم في تحصين منظوماتها الأمنية.
هكذا عادت «بلاك ووتر» إلى المنطقة تحت مسمى جديد هو «أكاديمي»، متخذةً من محيط مدينة زايد العسكرية في صحراء أبو ظبي مقراً لها. وتفيد المعلومات الواردة في الصحف الغربية وفي مقدمها «التايمز» البريطانية بهذا الشأن بأن ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، أبرم قبل سنوات عقداً مع «بلاك ووتر» بلغت قيمته 500 مليون دولار. بموجب العقد المذكور، تتكفل الشركة بمهمات من بينها حماية أنابيب النفط وناطحات السحاب وتوفير الدعم اللوجستي للجيش الإماراتي والسيطرة على الإحتجاجات الداخلية. إلا أنه في الآونة الأخيرة، راجت معلومات تقول إن دور إريك برانس في المشروع قد انتهى وإن مسؤولية الإشراف على المعسكر انتقلت للجيش الإماراتي.
يكشف تقرير لشبكة «فولتير» الإخبارية الإيطالية أن عناصر من معسكر المرتزقة في أبو ظبي شاركوا في قمع الانتفاضة الشعبية بالبحرين، البلد الذي يمثل الإرتزاق سمة ثابتة لقواته الأمنية. عملت تلك العناصر جنباً إلى جنب آلاف الخبراء العسكريين السابقين الذين أوفدتهم مؤسسة الفوجي الباكستانية لمساعدة النظام البحريني على إخماد الانتفاضة.
الأخطر مما تقدم هو أن الشركات الإسرائيلية حجزت لها موقعاً لا يستهان به في الاستثمارات الأمنية في الخليج. تقارير عبرية متعددة زخرت بالمعلومات حول التغلغل الإسرائيلي في الممالك والإمارات. يوسي ميلمان محلل الشؤون الأمنية والعسكرية الإسرائيلية وأحد أكثر المقربين من المنظومة الأمنية في تل أبيب تحدث قبل أشهر عن أن 10 شركات أمنية إسرائيلية خاصة وأخرى تابعة لوزارة الأمن كثفت عملها في دول عربية وإسلامية لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
في مقدمة هذه الشركات شركة G4S وشركة AGT التي عمل فيها قائد سلاح الجو الإسرائيلي السابق إيتان بن إلياهو. عمل الشركات المشار إليها يتم بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» تحت أسماء أوروبية وغربية مستعارة خشية افتضاح هويات العاملين وتعريض حياتهم للخطر.
يتضح من كل ما سلف أن لدولة الإمارات الباع الأطول في التعاطي مع الارتزاق الدولي، الأمر الذي سيفسر «أبوة» أبو ظبي لفكرة الإتيان بمرتزقة كولومبيين والدفع بهم إلى اليمن لمساندة التحالف السعودي. نجح محمد بن زايد على ما يبدو في إقناع حلفائه السعوديين بالفكرة المغامرة بعدما تبين له انسداد أفق الميدان اليمني.
أما لماذا الكولومبيون تحديداً؟
فالعودة إلى تحقيقات الصحافي جيريمي سكاهيل كفيلة بإيضاح جذور الإختيار. ففي أواخر آب 2006، إدعى عشرات الجنود الكولومبيين المرتبطين بعقود مع «بلاك ووتر» في العراق بأن الشركة تدفع للواحد منهم 34 دولاراً فقط في اليوم لقاء عمل يكسب نظراؤهم الأميركيون من خلاله مبالغ قياسية.
ضآلة الأجور تضاف إليها خبرة الجنود الكولومبيين الذين درّبتهم القوات الأميركية على مواجهة عصابات المعارضة اليسارية المعروفة بالفارك، وكذلك على القيام بعمليات «مكافحة الإرهاب» في أدغال كولومبيا وأنهارها، عاملان حملا «أكاديمي» (بلاك ووتر سابقاً) على الاستمرار في تلزيم مهمات القتال لمأجوري كولومبيا.
وليس الكولومبيون الوحيدين على قائمة الارتزاق في اليمن. أسماء بريطانية وأسترالية وأميركية وإيطالية وجنوب أفريقية فضحتها لائحة الخسائر الأجنبية التي تتولى القوات اليمنية تحديثها بعد كل معركة. وتظهر آخر المعلومات مقتل إيطالي وجنوب أفريقي وعريف أميركي من أصول باكستانية أثناء محاولتهم التقدم باتجاه منطقة حبيل سليمان وجولة المرور في تعز. وعلى الجبهة نفسها، كان قتل العقيد البريطاني المتقاعد آرثر كينستون والضابطين الأسترالي فيليب ستريتمان والمكسيكي ماسياس باكبناه ورابع فرنسي مع عناصر مجموعاتهم الأجنبية التي كانوا يقودونها في معارك متفرقة في المحافظة الواقعة جنوب غرب اليمن.
ويلاحظ من المعلومات الآنفة أن العسكريين الغربيين يلزمون قيادة وحدات الإرتزاق، فيما تتشكل المجموعات المقاتلة في الغالب من الكولومبيين وغيرهم من المقاتلين المنتمين إلى دول العالم الثالث.